في وداع القائد المقاوم ناصيف ياسين
غالب قنديل
تسترد أرض الجنوب وبلدة مجدل سلم هذا اليوم الحبيب الذي عشقها وهام في حبها والدفاع عنها وأمضى عمره على عهد المقاومة والتحرر وكانت عنده المقاومة مشروعا تاريخيا متواصلا للتحرر من سيطرة الاستعمار والصهيونية والرجعية لا تحده عصبية حزبية او هوية عقائدية أو إقليمية وهو يمتد كالنسيم عبر الحدود والمسافات في جميع انحاء هذا الشرق العربي وهذا المفكر والمؤرخ كان من اوائل من عرفوا الأجيال الجنوبية بقائدي المقاومة ضد الاستعمار الفرنسي صادق الحمزة وأدهم خنجر.
كان القائد المناضل ناصيف ياسين عروبيا ملتزما معاديا لكل تعصب او تخلف قد يمزق الصفوف ويصرف انتباه الناس عن القضايا الجوهرية وكان على الدوام يركز على التناقض الرئيسي وما يجب ان يستنهض الأحرار والمقاومون للقيام به في كل مرحلة تبعا للتحديات التي كان بارعا في عرضها واستخلاصها انطلاقا من محورية الصراع العربي الصهيوني وقضية فلسطين وهو العارف بالتاريخ والمتبحر في خفاياه وتفاصيله.
المتمرد الثوري الذي حمل وعيا نقديا متأصلا دعمه بدراسة دقيقة للتراث الديني والأدبي لبلادنا كان موسوعة متنقلة تضخ معرفة على مدى حله وترحاله ينشر افكارا لصيقة بالواقع وبتحدياته وبقضية التحرر الوطني والوحدة القومية في جميع بلادنا العربية…اعتنق المقاومة فدعا إليها ومارسها وساهم في إعداد اجيال من المقاومين والمناضلين الذين تتلمذوا على يديه فكريا ونضاليا وكان لهم القدوة والمثال ومنهم شهداء وأبطال من جميع تشكيلات المقاومة وتنظيماتها المتعاقبة.
كان مثالا في تواضعه الذي انتزع له مكانة مبهرة في القلوب والعقول وهو الكاتب الذي تجول في احياء الضاحية يبيع جريدة صوت الشغيلة ويعقد الندوات والاجتماعات وينظم الشباب والصبايا وهو القائد الذي فتح بيته في مجدل سلم مقرا ومركزا للرفاق لسنوات وجعله موقع اسناد في مقاومة العدوان الصهيوني عام 1978 وكان مع شقيقه ورفيق دربه الأستاذ تامر ياسين في المقدمة سلاحا وكفاحا في الدفاع عن الوطن وخلال الغزو الصهيوني عام 1982 كان رفيق السلاح في معركة المقاومة والدفاع عندما حاصر العدو بيروت فجمع بين قلمه وبندقيته في التزامه المبدئي كما فعل دائما ويشهد له الجميع بطيب المعشر ودماثة الأخلاق ونكران الذات وروح المبادرة.
مارس الأستاذ ناصيف مهنة التعليم واخلص لها كرسالة وعشقها كمهمة نضالية وتنقل في مدارس الجبل والضاحية الجنوبية وكان من قادة الحركة الإضرابية لمعلمي لبنان في السبعينيات وبالتزامه ووعيه كان مربيا محبوبا متابعا لشؤون طلابه ولعائلاتهم التي عرفها عن قرب فترك أثرا جميلا في كل مكان عاش فيه وعرف اهله وناسه وكان دائما حريصا على تربية وتثقيف اجيال الشباب الذين تأثروا به وبأفكاره الثورية والنقدية وتعلقوا بروح المقاومة والتحرر التي بثها فيهم.
ساهم الرفيق ناصيف ياسين في تأسيس وقيادة رابطة الشغيلة بعد مسيرة حافلة في العمل الوطني كرسته رمزا نضاليا وطنيا وجنوبيا بارزا وقدم مساهمات فكرية وثقافية جليلة وهو في وعيه وروحه وحسه النضالي جسد الالتزام بالقضايا الكبرى بما يتعدى الأطر الحزبية الضيقة فلم يبدل من قناعاته ومواقفه ومبادئه ومنهجه التحليلي أي حساب لمسافات القرب والابتعاد عن الهياكل والتجارب التي خاضها أو واكبها بكل وعي وإخلاص وتفانى في سبيلها وظلت عينه المحبة تتابع جميع رفاقه وكم كان هو الحريص على استمرار التواصل والنقاش والحوار على جري عادته مع مخالفيه فكيف مع رفاق الدرب وشركاء المشروع التحرري التاريخي.
نذر الأستاذ ناصيف نفسه لبلده ولشعبه وكان مع كل نفس من عمره عهدا متواصلا من النضال والتوقد الفكري والوعي الفلسفي والأدبي والثقافي وبقدرة نادرة حسده عليها الكثيرون في محاكاة الجميع والتأثير بهم فهو الجدير بخوض المناظرات الفكرية في قضايا الاستراتيجيات وفي المسائل الفلسفية العويصة كما هو المحاور الهادئ والعميق والبارع في انتزاع الاحترام والتقدير من مخالفيه وهو الخطيب الشعبي الذي يثق به الناس ويستجيبون لأفكاره.
عرفه أبناء الجنوب والجبل وبيروت والضاحية الجنوبية ورافق أجيالا من مزارعي التبغ وعمال غندور وجبر وعمال البلديات والتجمعات الشعبية والمنتديات في الأحياء والقرى والبلدات التي أحبه اهلها وتعلقوا بأفكاره ومناقبيته الآسرة فكان المثقف المحبوب والمتواضع والمناضل المنغرس بين الناس قائدا مقداما وموثوقا في انتفاضاتهم ضد القهر والظلم والاحتلال.
هكذا كان في بلدته مجدل سلم يتصدى مبكرا للتجاوزات التي نخرت العمل الفدائي وبددت رصيده ومزقت حضنه الشعبي وتعرض لمحاولات اغتيال واعتقال آثمة فهب الناس انتصارا لحبيبهم ورمزهم والمدافع عنهم وعن قضاياهم وهكذا كان في الرمل العالي بعد الاجتياح الصهيوني فساهم في قيادة اول انتفاضة شعبية تصدت للاحتلال ولعملائه ولجمهورية الموز التي أراد الحلف الأميركي الصهيوني فرضها لتثبيت اتفاق العار وكانت اول بوادر النهوض الشعبي بعد الاجتياح الصهيوني تحمل في ثناياها بصمة هذا المناضل الشجاع.
لو أردت استعارة لغته في الشهادة لمسيرته لقلت حرفيا : عرفناه بزهد أبي ذر الغفاري وبشجاعة الإمام علي ومار الياس وغيفارا وقد تميز دائما بتواضع كبير ونادر فلم تغره أي امتيازات ولم يغوه أي منصب او لقب وكان يخجل لو امتدح على مسمعه فينسل صوب الصفوف الخلفية دائما بكل كبر لأنه كره الاستعراضات ومقت مظاهرها ولم يتوان عن أي عمل يخدم قضية التحرر من الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية التي آمن بها واعتنقها طريقا في حياته ونضالاته الخالدة في ذاكرة شعبه ورفاقه وكان المثال في تجسيد فكرة ارتباط الالتزام النضالي بالقيم وبالأخلاق الرفيعة وبالمناقبية والاستقامة ولو أردت ان أقدم مثالا عن تلك القيم في حصيلة خمسة وأربعين عاما من النضال ورفقة الدرب لسميت الرفيق ناصيف ياسين أبو وسام الذي يرحل في الربيع كما لو اختار موعدا لرحيله فغادرنا لتحتفل به أرض الجنوب بينابيعها وحقولها وزهورها التي تنثر له اليوم رحيقا على جميع الدروب التي عرفته فتى يمشي مسافات إلى مدرسته كل يوم ومناضلا يتنقل بين القرى حاملا زاد معرفة ودليل نضال ومقاوما على عهد التحرير والدفاع وأديبا ومفكرا ومرشدا لأجيال واجيال من عشاق الأرض المنذورين للنصر او الشهادة.