موضة الحنين إلى قايين في العصر “الفايسبوكي” الدكتور نسيم الخوري
ظهر الإنسان الرقمي أو الإنترنتّي عنيفاً في سلوكه وملامحه. تأسّس على الخيال الهوليودي المشبع بأفلام العنف والجنس. وبدا مستنسخاً في تجمعات عبرعواصم العالم، لكنّه يقوى في تماس الشرق والغرب والدين بالدين والمعتقد بالمعتقد. حلّق بعنفه الوحشي نحو قمّة الشهرة المرذولة ( مذبحة المسجدين في نيوزيلندا 19 مارس 2019) متماهياً بمنتجي الأفلام وكأنّه يحمل هويّة متحرّكة جاب بها العالم في دقيقتين.
وعليه، تجد من يتساءل عن الفروقات بين إنسانٍ وآخر أوروبيّاً أو آسيوياً أو كنديّاً أو أميركياً وإلى أي بلدٍ إنتمى؟ أطرح هذا السؤآل المحشو بالتحدّي لمن يجلدون أوطانهم وثقافاتهم وأنظمتهم وحكّامهم بتهم النقائص الملازمة لأحكامهم في نقد المستقبل البشري المنحدر في الدنيا إلى ما دون مشاهد الغرائز الرحومة في القتل.
لا مكان سوى للتوحّش الباذر للأحقاد بين معتنقي الأديان. تقتلع الأقليّات الدينية في أنحاء العالم وترمى كما الديدان وتحطّم المقرّات الدينية وتحقّر الرموز الدينية أمام عين العالم، عندما تتوسّع المجتمعات وتفتح لكلٍّ منا أن يمهر الكرة بإنسانه وإبتكاراته بما يعمل ويحقّق كفردٍ له دمغته وقارّته وتوقيعه الخاص جدّاً حتّى ولو بلغت أعلى قمم الحقد. ننزل من هذه القمم فنرى أجيالنا الكونية تجوب عواصم العالم بالقمصان التي لا ياقة لها تيمّناً ببساطة مارك زوكربيرغ مخترع الفايسبوك.
لا مجال للقياس هنا بين عمق الأحقاد الدينية وجذورها المتفتّحة بين معتنقي أديان التوحيد الثلاثة. يمكننا رمي المسؤوليات كما المعتاد على “العقل الخبيث المجهول المعلوم” اليهودي الذي يجهد للظفر بالله مجدداً وبكلّ أبعاده كونه الأوّل في لقاء الله بالأرض مع أنّ المسألة أوسع من ذلك. نرى نيوزيلندا باكيةً وكأنها تكاد تعلن إسلامها بهدف محو الجريمة لكنّ هذا كلّه لن ينزع غابات الحقد السياسي العالمي الذي يتذرّع بالدين مع أنّه الأضعف اليوم لكنّه الأقوى في الدعوة إلى الغرائز وتحقير الآخر وإلغائة. سمعنا من يقول أو يكتب أنّ المسيحيين يقتلعون من الشرق تباعاً ولم نشهد مهرجاناً دينياً مسلماً يلبس الصليب ويملأ الجوامع إستنكاراً. أين أصبح الإنسان المعاصر وإلى أين يتّجه؟ في فرنسا مثلاً خمس ملايين كاثوليكي مؤمن لكن هناك بالمقابل 6 ملايين مسلم يطالبون فرنسا بقوانين خاصة غير قوانين 1904 العلمانية. وهناك وشوشات إسلامية ومسيحية بأنّ الإسلام سيكتسح العالم. أنا أقول أنّ السياسات الدولية المرهونة ل”إسرائيل” تفرّغ الإسلام بعدما كادت أن فرّغت المسيحية من مضامينها بحثاً عن حكومة العالم. أمس كان هناك مسلم هو باراك حسين أوباما في البيت الأبيض واليوم هناك مسيحي يهودي في البيت الأبيض قام بإلغاء 16 مصلّى كان أوباما قد سمح بها في البيت الأبيض.سأخرج من عالم ردود الفعل المخيفة التي تسخّف ردود فعل المؤمنين وجلّهم منقادون للغريزة لأنفذ إلى حيّز الشهرة المرضية عندما يصبح القتل مساوياُ للموضة/الإشهار.
نأخذ الموضة La Mode مثالاً سطحيا صارخاً أبدع فيها أستاذي الفرنسي ريمون بارت كمؤشّر للتمايز لا للتشابه والإلفة والعادة، ونتمتّع بروءية شعوب العالم تتشارك الثقافات وفقاً للزمان والمكان والإمكان. لا أحداً خارج العصر. تلك هي خطورة ظاهرة تساوي الصناعيون بالمستهلكين اليوم في حركة الأسواق المنقادة للإعلام والأحرى للإعلان المشبع بالنزوات والحافر في الغرائز. قد تجد نوعاً من الإستنساخ للمظاهر الثقافية لدى ملوك الفراعنة وأثرياء العالم اليوم.
تقتني غرضاً بألف وتجد تقليداً له بخمس دولارات. يظهر أحياناً ما هو بخمس أميز ممّا هو بمليون في حركة البيع والشراء والشعرة. تلهث الصناعة والفنون مهما كانت جذورها عظيمة خلف المال والمستهلكين. الأغنياء أوالمستهلكون الكبار فرضوا على المصانع الإبتكار أو ما صار يعرف بالصناعات الخاضعة للبشر ولأذواقهم وأمزجتهم وأقيستهم وفرادتهم وأحاديتهم أو ما يعرف تحقيقاً للخروج من حقول العامّة. ترتدي سيّدة فستاناً واحداً لم يرتديه ولن يرتديه غيرها من قبل أو بعد. يقتني الميسور سيارة أو طائرة أو سفينة أو يختاً أو قصراً له وحده ولا مثيل له. هي لعبة قشور الحضارات في إجترارها بحثاً عن الفرادة. لم يعد مقبولاً القول علميّاً بأنّنا نخلط الحضارة بالثقافة الأفضل التفكير بطغيان الثقافة على الحضارة الى حدود ذوبان الأخيرة في مياه المجتمعات البشرية التي قد يمثّلها الفرد الواحد ليضفي إليها شخصه ولو أنّها تشيع ثقافة الموت المعاصرة.
تتلاشى مفاهيم الحضارة وتفقد معناها أو هويتها أو الدولة التي كانت تختصرها والتي قضى آرنولد توينبي حياته يبحث عن تعريفٍ نهائي لها ولم يستقرّ على واحدٍ منها؟ ألا يحقّ لنا القول بأنّ هذا المفهوم الساحر صار وهماً ضبابيّاً أراح الشعوب من عقدها؟
هذا سؤآل يأخذنا جميعاً الى التفكير المباشر مثلاً بالحضارة الهندية القديمة والهيلينيّة (التسمية التي أفضّلها على الإغريقية) أو الرومانية أو البيزنطية أو الأوروبية؟ أين هي الحضارة الأوروبية أو الأميركية أو الروسية أو الصينية والهندية؟ وكيف نخلّص البشرية من التشوّهات الهائلة الحاصلة في نسق المعتقدات ؟ لا فروقات بين الحضارات إلاّ في ميادين المعالم الثقافية المتجدّدة وأسوقها هنا بمعناها الفرنسي أي بطرائق المأكل والملبس والنوم وأساليب الحياة الإجتماعية لا بمعانيها الإنسانية الكبرى.
يفرزهذا العصر المخيف، مفاجآت الشهرة المتنوّعة والتواصل بها في مساحات خاصة بك تجعلك سابحاً في عين البشرية وفي نسيج الثقافات والكتابات والصور والفيديوهات العالمية في ظلّ غياب المفاهيم الكبرى التي تنسحب تاركةً مقاعدها العالية وبريقها العريق للثقافات البرّاقة المتنوّعة مهما كانت غريبة أو بعيدة فهي مرغوبة اليوم من الأذواق ويمكن مشاركتها مع شباب العالم مثال ثياب الجينز الممزّقة التي كان يرتديها عمّال المناجم.
أستنتج بأنّ الفروقات الطبقية تذوب بسرعة هائلة بين المجتمعات اللاهثة وراء التكنولوجيا السهلة الى درجة منح الإنسان المعاصر ملامح ثقافة المجتمع الرقميّ العالمي الذي لم يتبلور مستقبله نهائياً بعد .
أطرح هذه الأسئلة من نيوزيلندا للتفكير مجدداً بالنظريات والعقائد والأديان التي لعبت وتلعب دورها سلباً و”إيجابا”، وعلى مدى العصور، عبر البشر بهدف التبشير والتبادل والتعارف والتلاقي في أساليب العيش التي تذوب حاليّاً في مشهد عالمي مرصّع بالثقافات الجميلة والمرعبة التي لا عدّ لها والزاهية الألوان والتي تتحوّل، ونحن في مساحاتها، الى معرض لا ينتهي لكن لكلّ فرد فيه شخصيته وحيوانيته وأمراضه وأحقاده وحضوره وأموره الجاذبة لإنتباه الشعوب بما يتجاوز القاتل قايين أو يسخّف أحلام كريستوف كولمبوس في كشف الجغرافية .