قمة الجرمق- معين الطاهر
المقال يصف عودة متخيلة إلى فلسطين شارحا ظروفها وسبلها
ببطء أصعد إلى قمة الجبل. أجلس على كرسي متحرك، بعد أن خذلتني ساقي التي عانت جرحا قديما. كم أتمنى أن أحلّق مع سرب طيور يرفرف باتجاه قمة الجرمق، أو أهرول مع المئات الصاعدين إليها. بعضهم مثلي، من ذلك الجيل القديم الذي ولد في زمن النكبة، واعتُقل أو أُسر أو جُرح. عرفني أحدهم وقال لي توقّعت أن أراك هنا، وبحثت عنك بين الجموع. ذكّرني آخر بوالده الشهيد، وثان بابن عمه الأسير، وثالث برفيق درب قديم. ساروا معي بضع خطوات ثم فارقوني ليلحقوا بالرفاق.
اليوم مثل يوم القيامة؛ لا أحد ينتظر أحدًا. أمواج من الشباب تتلاحق صعودًا، زحفوا مع جموع اللاجئين العائدين، وبعضهم يحمل بندقيته، لو كان إسماعيل شموط بيننا لأعاد رسم اللوحة ذاتها التي صوّر فيها جموع اللاجئين في سنة 1948. عادوا كما خرجوا. كل ما تغيّر هو اتجاهات المسير، ومزيج من تعب السنين وفرح اللحظة.
ألمح عن بعد سحابة دخان، وأسمع طلقات خافتة، ابتعد صوتها حتى اختفى. أجاب من يبدو أنّه عارف بالأمور: “هم بعض المتطرفين الصهيونيون، هربوا من مستوطناتهم القريبة إلى القاعدة العسكرية التي كانت مقرًا لقيادة المنطقة الشمالية للعدو، في محاولة يائسة للتمرد على الاتفاق الذي يُنهي نظام الأبرتهايد والتمييز العنصري، ويفكك الكيان الصهيوني، ويسمح بعودة اللاجئين إلى ديارهم”. كان تكرارا ممجوجا لتجربة الجيش السرّي الفرنسي الذي شكّله بعض الجنرالات ذوي الميول الفاشية لدى استقلال الجزائر.
يا إلهي، من ظنّ أنّي سأعيش حتى هذا اليوم؟ وأنّ الذكرى الثمانين للنكبة ستصبح اليوم الأول للعودة، وأنّ “إسرائيل” التي أقرّت قبل عشرة أعوام قانون القومية اليهودية العنصري، وصالت وعربدت ودمّرت وخاضت حروبًا، قد انهارت وتفككت. وأنّ الحجر انتصر على الدبابة، والعين واجهت المخرز، والحياة تغلّبت على الموت؟
كان تلك بداية انهيار آخر كيان عنصري في العالم. عزلة الكيان الصهيوني صارت مثل كرة الثلج؛ كلما تدحرجت كلما كبر حجمها وجرفت في طريقها كل شيء. لم يعد أحد في العالم يجرؤ أن يدافع عنها أو يقف معها، وتعاظمت جماعات الضغط في جميع الدول تدعو إلى مقاطعتها.
ارتد ذلك إلى داخلها، فتعاظمت النزعة الفاشية فيها، هربت من أزمتها البنيوية إلى الحروب، وظنّت أنّ التوسع يحقق الوهم التوراتي. لم تدرك أنّ الاحتلال ميلاد المقاومة، وأنّ الفاشية والأبرتايد ترتد على صاحبها فيفتكان به من داخله، ويقويان مجتمعاتنا ويزيدان في وحدتها وتماسكها، ويجعلانها تعود إلى ذاتها وتبتعد عن وهم أنصاف الحلول وسرابها، وأنّ المقاتل الصهيوني لم يعد يمتلك القدرة على التقدّم عبر الدمار الذي خلقه. نمت مقاومتنا، وانهار مجتمعه وتفكك من داخله، بعد أن أنهكته الحروب والمقاومة والهبّات الشعبية، وأصبح معزولًا في العالم كافة.
يعيدني شريط الذكريات إلى نكسة حزيران/ يونيو 1967، يومها لم يتعلّم الصهيونيون الدرس، وانتظر موشيه ديان قبل أن يقرع جرس هاتفه ليعلن عن استسلام زعيم عربي. الهزيمة تقود إلى التحدي والمقاومة عند الشعوب، والعودة في المقابل فعل مضاد للنكبة.
بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بعنا الانتصار الذي تحقق، واشترينا الوهم الذي رافق مسيرتنا لأعوام، قالوا لنا إنّه يمكن لغريب أن يقتسم معنا ذاكرتنا وتاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، والغريب أنّ الغريب لم يوافق، ادّعى أنّه ينبغي إعادة تأهيلنا وترويضنا كي يصبح متاحًا له أن يتكلم معنا مجرد كلام عابر لا صوت له ولا معنى، كلام يعطيه الحق لأن يستمر في تهجيرنا ووضعنا في معازل تمهيدًا لإبادتنا. تمسّك الغريب عن الدار بأوهامه، وسعى إلى تحقيقها، تارة بقوته الغاشمة المستمدة من قوة رعاته في الغرب، وأخرى بتواطؤ بعض أبناء جلدتنا، فاعتقد أنّ أرضًا لم تكن يومًا له صارت لا تتسع إلّا له وحده، وأن لا مكان فيها “للأغيار”. ربما عجّلت أوهام الغريب في جعل عودتنا حقيقة.
في منتصف الطريق إلى القمة، التفتُّ قليلًا إلى الخلف، كانت قرية رميش اللبنانية ما زالت على مرمى البصر، ببيوتها الجميلة التي أضحت ممتدة باتجاه بنت جبيل عروس الجنوب التي صمدت في وجه الاجتياحات الصهيونية المتتالية. أسماء العائلات في رميش اللبنانية تشبه أسماء أقربائهم في إقرت وكفر برعم الفلسطينيتين اللتين احتفل أهلهما بعودتهم في الأمس، وقرعوا أجراس الكنيسة المهجورة بعد ثمانين عامًا من صمتها. عادوا، بعد أن طُردوا من قراهم، إلى داخل وطنهم. حالهم مثل حال عشرات القرى التي استمر أهلها على مدى تلك الأعوام كلها يزورون أطلال قراهم المهدّمة، دون أن يتمكنوا من العودة إليها. فالهجرة كانت هجرتين؛ الاقتلاع خارج الوطن، والطرد داخله. و أقسى ما كان على الذاكرة والأجساد النحيلة تحمله، أن تشاهد وطنك من خارجه ولا تستطيع العودة إليه، أم أن تقف على باب بيتك فتتلمس حجارته، لكن يُمنع عليك دخوله أو النوم في ظلال دالية عنب زرعها أبوك أو سنديانة عتيقة غرسها أحد أجدادك؟
تذكّرني شجرة السنديان التي تظلل كنيسة كفر برعم بأخرى صلّينا في ظلالها في قرية لبنانية جنوبية هي كفر شوبا، يومها أمّنا في الصلاة السيد موسى الصدر، ورافقه المطران غريغوار حداد، وكان معنا السيد هاني فحص ومجموعة من طلاب الجامعة اللبنانية، يتقدّمهم الشهيد نذير الأوبري، اجتمعوا معا ليدافعوا عن كفر شوبا، ويساهموا في إعادة تعميرها بعد أن دمرتها الغارات الصهيونية. إمام شيعي، ومطران مسيحي، وطلاب فلسطينيون ولبنانيون وعرب يعيدون بناء قرية سنيّة. يومها لم تكن هذه المفردات المذهبية أو القطرية تعني لنا شيئًا، ولم يكن أحدنا يسأل الآخر عن جنسيته ودينه ومذهبه، وعندما تردد هذا السؤال، وصار له معنى، غاب حلم العودة وابتعدت مواقيتها.
أين أنت يا رفيقي؟ أحسبك تسير الآن بين هذي الجموع. أتذكر منزلك الذي عمّرته في رميش بعد تحرير الجنوب، كان نفحات النسيم المتدفقة عبر نوافذه فلسطينيًة، تمتزج فيها رائحة تبغ الجنوب مع الزعتر والزيتون. أينما كنا نتلفت، نشاهد قمة الجرمق وقاعدة الرادار الضخمة التي كانت تراقب الجنوب كله. من شرفة المنزل، كنّا نحلم بهذه اللحظة، ونستعيد ذكرياتنا أيام الكتيبة الطلابية التي أُعيد تسميتها باسم “كتيبة الجرمق“.
أتذكّر يوم جئتنا إلى بنت جبيل في سنة 1976 عائدًا من حيّ النبعة جريحًا، يومها أنقذك الأرمن من القوى الفاشية المتسترة بالدين، والتي هاجمت فقراء النبعة والمسلخ وتل الزعتر. أذكر كيف انتقلت من باحات الكنيسة و”مسيحيون من أجل القدس” إلى تلك الأزقة الفقيرة، لتغدو مقاتلًا ثوريًا يدافع عن المظلومين، وكيف وقفت في بنت جبيل مع مروان كيالي من يافا، وحسان شرارة وزيتون بزي من بنت جبيل، وبشار الفاعور من الخيّام، ومحمد الشحيمي من البقاع، وأبو وجيه العنداري من الجبل، وعلي أبو طوق المولود في حمص لأب من حيفا. لم يخطر ببالك يومًا أن تسأل أحدهم عن سرّ لكنته وأصله وفصله ومذهبه، ولم يعرف أحد أنّ قائدهم في بنت جبيل هو ذلك الشاب المسيحي الماروني الذي يقاتل ضدّ محاولات يهوذا الإسخريوطي التغرير بأبناء عمومته في رميش وإلحاقهم بالشريط الحدودي.
لاحقًا، استطاع الزمن الطائفي وحروب الردة أن يؤجلا حلمنا قليلًا، وأن يغيّرا اتجاه عقارب البوصلة من فلسطين إلى طوائف متخيلة، وأن يخترعا لنا أعداءً آخرين. اعتقد العدو أنّ حبل نجانه معقود على وسم الآخرين بصفاته، فحين نكون طوائف وشيعًا تصبح له المكانة الفضلى، ويغدو السيد الآمر القادر على تبرير وجوده وتسويغ دوره.
تقول لي أمي إنّهم لم يحملوا شيئًا من متاعهم حين خرجوا من يافا، وإنّ عمي، عضو اللجنة القومية فيها، زجرها حين حاولت أخذ بعض مقتنياتها الثمينة قائلًا لها: “أسبوع فقط وستعودين إلى دارك”. وها نحن نعود كما خرجنا. امتدت الأيام وطالت من أسبوع إلى ثمانين عامًا.
منذ النكبة ونحن نمني أنفسنا بالعودة، نتلمس جميع الطرق إليها، ساهمنا في تشكيل الأحزاب العربية بمختلف ألوانها، وعلّقنا آمالًا كبارًا على الانقلابات العسكرية المتتالية، وسعينا وراء كل مشروع للوحدة في العالم العربي. كنّا ننظر إلى كل تغيير في أي قطر عربي على أنّه خطوة تقرّبنا من التحرير، استهلكنا وقتًا كافيًا قبل أن نكتشف تلك العلاقة الجدلية بين العمل على التحرير والتقدّم نحو الوحدة، وأنّ فلسطين، ولا شيء سواها، هي من تكشف معادن العرب، وأنّ علينا أن نأخذ أمورنا بأيدينا ونقاتل من دون أن ننتظر أحدًا.
لكنّ البعض خاف أن تمتد نيران الثورة. كم كان مؤلمًا أنّ عدد الشهداء الذين سقطوا بنيران عربية ناهز عدد أولئك الذين سقطوا بنيران العدو، وأننا كلما تخيّلنا أنّ ثمّة هانوي عربية تحتضننا، اقتُلعنا منها بنيران هذا أو ذاك. مضى وقت أليم قبل أن نكتشف أنّ هانوي ليست أبنية وشوارع ومدنا وقرى، بل هي في صدور الناس وقلوبهم حيث لا يمكن طردنا منها. كم من حرب قاتلنا فيها! وكم من انتفاضة أشعلناها! لكنّ بعضنا استعجل جني ثمارها، وغابت عنه الأبجديات الأولى للثورة فتصالح مع العدو، ركض وراء سراب وضاع في غياهب الوهم حين ذهب إلى أوسلو، تلك البلاد الباردة التي لفحتنا بصقيعها وأدخلتنا إلى ثلاجة الموتى.
ربع قرن آخر مضى، أُعيد فيها إنتاج أوسلو مرات ومرات، وما زال فينا من يظنّ أنّ طريق نيل حقوقنا يمرّ عبر المحافظة على أمن العدو، وعبر التحول إلى حرّاس أمنه وسلامة مستعمراته التي ابتلعت كل شيء.
هي الأيام دول يتداولها الناس، والضعف يتحوّل إلى قوة تجرف، عبر هبّاتها وانتفاضاتها كل ما يقف في طريقها. توحّدنا في الشتات والمناطق المحتلة، والتفّ حولنا العرب كلهم، بعد أن تهاوت عروش وسقطت أنظمة. وقوة العدو استحالت ضعفًا، بعد أن وقف العالم كله ضدّ آخر نظام للفصل العنصري، وآخر قوة احتلال. وفي مقابل وحدتنا تفكك كيانه وتأكل. المشروع الفاشي العنصري هُزم أمام الحق والعدالة والمساواة وحقنا في أرضنا والعودة إليها، عاد بعض اليهود إلى إنسانيتهم ووقفوا معنا، وغادر الآخرون مصطحبين معهم أولئك الذين رضوا أن يكونوا لهم عبيدًا في يوم من الأيام.
أخيرًا، أصل إلى القمة، حيث يختلط نسيم البحر مع هواء الجبل، التفت يمينًا فأرى قلعة الشقيف من بعيد، وأشاهد روح علي أبو طوق ترفرف فوقها قادمة إليّ من مخيم شاتيلا، يزفها العشرات من الشباب والصبايا. يصل علي حيث أقف، تحمله عيناي يسارًا لتودعه أخيرًا بيته في حيفا.