إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (37) حميدي العبدالله
تستطيع الصين أن تلعب دوراً كبيراً في عملية إعادة إعمار سورية وربما يكون الدور الصيني أكثر اتساعاً ويشمل مجالات لا يستطيع حلفاء سورية الآخرون الذين لهم الأولوية في عملية إعادة الإعمار القيام بما ستقوم به الصين، والمقصود بحلفاء سورية بالدرجة الأولى روسيا وإيران.
معروف أن روسيا وإيران تتعرضان لحصار أمريكي وغربي شديد، وهذا الحصار الذي لا نظير لـه إزاء الصين يعرقل عملية المشاركة الواسعة في إعادة الإعمار، وحتى إذا تم التغلب على تأثير هذا العامل بجهد مشترك بين سورية وحليفيها الرئيسين إيران وروسيا، فإن قدرات هذين البلدين بسبب الحصار والعقوبات الغربية وعوامل أخرى، هي أدنى بكثير من قدرات الصين.
لدى الصين قدرات مالية واستثمارية أكبر بكثير من روسيا وإيران، والصين تهتم بالاستثمار في الخارج أكثر من هذين البلدين اللذين يسعيان هما لاستقطاب الاستثمارات الخارجية لأن اقتصاد البلدين لا يزال في وضع يحتاج إلى مثل هذه الاستثمارات.
ما تحتاجه سورية في عملية إعادة الإعمار، يشكل عنصراً حيوياً في هذه العملية، هو المال، الاستثمار أولاً، وثانياً الخبرة في مجالات إعادة الإعمار التي تشمل كل شيء في سورية، من إعادة إعمار الطرق السريعة إلى بناء الجسور المهدمة، وإعادة بناء المدن الصناعية، وتشييد سكك الحديد التي طالها الكثير من الدمار إلى القدرات التقنية والتكنولوجية.
ومن نافل القول إن جميع هذه العناصر تتوفر للصين، بينما لا توجد لدى دول أخرى مثل روسيا وإيران، وحتى لو وجدت بعض هذه العناصر مثل الرغبة في الإسهام في إعادة الإعمار، فإن القدرات محدودة على المستوين الاستثماري والقدرات والخبرة.
يمكن للشركات الروسية أن تسهم في عملية إعادة الإعمار من خلال إعادة تأهيل آبار النفط والغاز، والتنقيب والبحث عن مصادر جديدة للطاقة، ويمكن لإيران الإسهام في عملية تشييد قطاع الكهرباء, ولكن روسيا وإيران تحتاجان إلى الاستثمار المالي الذي تحتاجانه في التنمية في بلادهما، ومواجهة آثار العقوبات والحصار الاقتصادي.
كما أن للشركات الصينية خبرة واسعة في التنمية في بلدان تشبه ظروفها وأوضاعها الأوضاع القائمة في سورية ولاسيما في مرحلة ما بعد الحرب، ولدى الصين ما يشجعها ويحفزها لإعطاء الساحة السورية أهمية أساسية، ولم يكن ما جاء في دراسة مؤسسة “راند” مجانب للحقيقة أو مبالغ فيه.
الصين اليوم لديها وفرة في الاستثمار، وتتطلع للعمل خارج حدودها, ولاسيما في إطار مشروع مبادرة “الحزام والطريق” وثمة عاملان رئيسيان يدفعان الصين للتوجه إلى سورية والإسهام بقوة وربما غير متوقعة في عملية إعادة الإعمار. العامل الأول، القيود التي بدأت تفرضها الحكومات الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة لعرقلة النشاط التجاري والاستثماري في الصين خارج الصين. ولا تقتصر الإجراءات التقييدية على فرض ضريبة جمركية مرتفعة على السلع الصينية في الأسواق الأميركية والغربية، بل تعدت ذلك إلى استغلال الولايات المتحدة والدول الغربية لنفوذها في مناطق واسعة من العالم للضغط على حكومات كثيرة لمنعها من تطوير علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الصين.
كما أن اعتقال المدير المالي لشركة هواوي في كندا يأتي في سياق تصعيد الضغوط والإجراءات لعرقلة انسياب الاستثمار والقدرات الصينية إلى خارج الحدود الصينية والاستثمار في دول كثيرة.
العامل الثاني، أن القيود التي تفرضها الحكومات الغربية على الاستثمار الصيني في الخارج، وحاجة الصين إلى الحفاظ على معدلات نمو مرتفعة، يدفعها للبحث عن بدائل في أماكن أخرى، وتشكل سورية واحدة من الأماكن المرشحة لاستقطاب القدرات الصينية الاستثمارية، ولاسيما في إطار عملية إعادة الإعمار، لأن الصين وقفت سياسياً إلى جانب سورية، وساهمت مع روسيا في استخدام حق الفيتو في مجلس الأمن ضد قرارات غربية كانت موجهة ضد سورية، وبالتالي ليس للغرب نفوذ في سورية يعطل إسهام الصين، ولاسيما الشركات المملوكة من الدولة الصينية في عملية إعادة الإعمار.
إذن لدى الصين حوافز إضافية للمشاركة في عملية إعادة إعمار سورية، أهمها البحث عن بدائل تعوض عن الخسائر الناجمة عن الحرب التجارية التي فرضها الرئيس الأميركي على الصين، والقيود الغربية المفروضة على الشركات الرائدة الصينية، وسورية اليوم حيث قدرت مصادر البنك الدولي إن عملية إعمارها تحتاج إلى حوالي(400) مليار دولار، تشكل بالنسبة للصين ساحة أنموذجية ليس فقط لتحقيق الفائدة التجارية والاستثمارية التي دأبت عليها الصين في إطار سياستها الخارجية، بل وأيضاً للتعويض عن خسائر قد تلحق بالاقتصاد الصيني، وللإفلات من القيود الغربية التي تفرض عليه الآن.
لا يعترض إسهام الصين بقوة كبيرة في عملية إعادة الإعمار أي قيود أو عراقيل سياسية او مالية أو تقنية، وسورية دولة ليس فيها ما ينفر ويدعو إلى التريث، فالأمن والاستقرار يعود إلى الأراضي السورية، وباتت غالبية المدن السورية الكبرى تحت سيطرة الدولة، والدولة السورية ليس عليها ديون على غرار الكثير من الدول تجعل ثروتها الوطنية مرهونة لهذه الديون، وثروات سورية المتنوعة تؤهلها لسداد أي قروض، وتوفير بدلات أي مساهمة في عميلة إعادة الإعمار من أي جهة كانت. لكن من المعروف أن عمليات إعادة الإعمار بمشاريعها المختلفة، تغطي إعادة الإنفاق عليها، لاسيما إذا كانت هذه المشاريع لا تقتصر فقط على البنية الخدماتية، وشملت قطاعات منتجة مثل النفط والغاز، وتشييد المصانع مثل مصانع السيارات، وأي نوع آخر من الصناعات، مثل الإسهام الصيني المحتمل لتطوير قطاع التكنولوجيا والاتصالات في سورية, حيث أعلنت شركة هواوي عن استعدادها للقيام بدور كبير في إعادة تشييد هذا القطاع.
تستند السياسة الاقتصادية الصينية في الخارج على مبدأ عرض المصالح المتبادلة والمتكافئة، وهو مبدأ حرصت عليه سورية في إطار تمسكها باستقلالها الكامل بما في ذلك الاستقلال الاقتصادي، والصين عبر سياستها هذه تلبي أحد ثوابت السياسة السورية.
في ضوء كل ذلك فإن آفاق إسهام الصين في عملية إعادة إعمار سورية آفاق مفتوحة وواعدة، ولا تواجهها أية عراقيل. لكن بكل تأكيد نحتاج إلى تعزيز التنسيق والتعاون في المجال الاقتصادي بين سورية والصين للارتقاء بالعلاقات بين البلدين في هذا المجال من واقعها الحالي إلى مستوى يتناسب مع هذا الأفق المفتوح. للأسف الشديد التنسيق والتعاون والتشاور بين المؤسسات المعنية الصينية والسورية هو أدنى بكثير مما يحمله أفق العلاقة بين البلدين، ولاسيما في مرحلة إعادة الإعمار وتدارك هذا الواقع حاجة ملحة سورية- صينية، ويتطلب ذلك إنشاء إطار مؤسسي اقتصادي لإدارة مساهمة الصين في عملية إعادة الإعمار، إطار وظيفته الأساسية إزالة العقبات والعراقيل التي قد تعترض هذه العملية ورفع مستوى التعاون التجاري والاستثماري بين البلدين على قاعدة المنفعة المتبادلة والمتكافئة.