حروب الاستنزاف الطويلة
غالب قنديل
تتخبط الولايات المتحدة في سياساتها وخططها المتعلقة بجبهات الحروب العسكرية والتجارية المتعددة التي تخوضها في العالم وتنقسم النخبة الإمبراطورية الحاكمة في واشنطن حول أفضل الممكن لمجابهة التحولات القاهرة في العالم بعد تطبيق مبدأ منع قيام قوى منافسة خلال عشرين عاما شهدت حروبا مباشرة وحروبا بالوكالة وانتشارا كثيفا للقوات الأميركية الخاصة في أكثر من مئة وخمسين بلدا في القارات الخمس وبينما تتواجد الأساطيل الحربية في معظم المحيطات والبحار والممرات المائية وتلقي واشنطن بثقلها لفرض منظومات صارمة من العقوبات المصرفية والمالية مستخدمة تفردها بنظم وممرات التحويل المصرفية الرئيسية وبقنوات التدفق المالي عبر البنوك وبفاعلية الدولار في المبادلات التجارية العالمية لكن كل ذلك يهتز ويتراجع مع ظهور انوية البدائل الناشئة في الشرق والذاهبة نحو التوسع والانتشار عالميا.
يتصرف المخططون الأميركيون على جميع الجبهات بنهج إدامة الاستنزاف الطويل وعدم إغلاق الجروح التي فتحوها ويسيطر عليهم التردد بين خياري الانكفاء او البقاء كما هي الحال في سورية وتستبعد واشنطن في هذا المناخ جميع فرص التسويات والتفاهمات السياسية رغم الخسارة والتراجع وتبدل ميزان القوى.
فالإمبراطورية يتملكها الذعر والقلق من مخاطر انقلاب استراتيجي قادم تسعى إليه جبهة رافضي الهيمنة الأميركية الأحادية في العالم وتجاهر به روسيا والصين وإيران وتسانده الهند بينما تبذل جهود كبيرة لاستمالة باكستان وتركيا بقيادة ذلك الثلاثي الشرقي وبتعاون وثيق وتوزيع للأدوار بين كل من موسكو وبكين وطهران كما ظهر مؤخرا وبقوة.
نتيجة التحولات تم استحضار اشتباك هندي باكستاني لتعطيل المسارات الاقتصادية والسياسية المقلقة للبنتاغون بفعل الثقلين الروسي والصيني اقتصاديا وعسكريا في شبه القارة الهندية ومع تغلغل النفوذ الإيراني الكبير في باكستان وأفغانستان وفي ظل علاقات إيرانية هندية نامية وبقوة.
استدارت الإدارة الأميركية نحو اميركا اللاتينية وركزت على إشعالها بحملات ومؤامرات منظمة للتدخل ضد الأنظمة والحكومات المتمردة على هيمنتها ولتعويض الفشل في الشرق العربي نتيجة العجز عن قلب المعادلات في الحرب على سورية وفي الصراع العربي الصهيوني او إخضاع إيران.
إن من يتأمل الكرة الأرضية اليوم لا يكاد يستطيع إحصاء الحرائق التي أشعلها الأميركيون وعملاؤهم في أكثر من مكان في العالم وهم في الواقع عاجزون عن التكيف مع شروط التسويات الممكنة التي لا تبالغ القوى الممانعة للهيمنة في تصعيب شروطها بسبب نهجها الدفاعي.
إن أبرز وجوه الخلل في إدارة الصراع من قبل جبهة مناهضي الهيمنة هي ان هذه الجبهة القائمة بالقوة ليست قائمة بالفعل من خلال صيغة سياسية قادرة على قيادة الصراع وتحديد الأولوات بصورة مشتركة وتنسيق الجهود السياسية والاقتصادية والعسكرية لمقاومة الهيمنة الإمبراطورية من خارج الأدوات التقليدية المعتادة .
في القرن الماضي تشكلت جبهة مقاومة الهيمنة في صيغ سياسية وعملية كحركة عدم الانحياز التي ربطها تحالف مع المعسكر الاشتراكي واليوم لاوجود فعليا لأي إطار منظم عالمي يوحد الجهود ويقرر الخطوات وحتى منظمة شانغهاي التي يفترض انها إطار دولي اقتصادي لاعتراض الهيمنة ومقاومتها لم ترسم اطرا وآليات مشتركة وجديدة للعلاقات ما بين اطرافها اقتصاديا وماليا من خلال نهج مكرس لإضعاف تأثير العقوبات المالية والمصرفية التي تفرضها الإمبراطورية الأميركية او تهدد بها جميع العصاة والمتمردين في العالم فالمحقق فعليا هو على مستوى العلاقات الثنائية بين الدول المعنية وثمة الكثير مما يثر الاستغراب والتعجب عن تأخر التشبيك الاقتصادي والمصرفي بين دول تجمعها قضية مشتركة هي مقاومة الحلف الاستعماري والطغيان الأميركي في العالم.
في ظل استراتيجيات الاستنزاف لاتكفي إرادة الصمود الدفاعية بل ينبغي التفكير جديا بكيفية الانتقال هجوميا إلى صياغة بدائل دولية جديدة وتنسيق الجهود الميدانية لتسديد ضربات رادعة للغطرسة الاستعمارية في كل مكان وهذا يفترض قيام جبهة عالمية واحدة تقود الصراع.
ينبغي لنهج التحرر من الهيمنة ان يبدع أفكارا جديدة ويغادر الانتظارية الدفاعية التي تستهلك الزمن وسط النزيف المتواصل فينتقل نحو مبادرات هجومية خلاقة تفقد جبهة الأعداء القدرة على المبادرة وتوفر مستلزمات الحسم في ساحات المواجهة بدلا من التكيف مع الاستنزاف المهلك الذي تعتبره واشنطن ورقتها الرابحة كمافعلت سابقا مع الاتحاد السوفيتي والمعسكر الاشتراكي.