نبيه بري العربيّ الفلسطينيّ: ناصر قنديل
– شخصياً لم أتمالك نفسي من الشعور بتيار كهربائي يجتاحني وأنا أسمع دولة رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري يصدح بصوته الرخيم وتعابيره الجزلة، المكتوب والارتجالي منها، في الكلمة الرسميّة وفي مناقشات البيان الختامي في مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي. هو شعور بالفخر ممزوج بشعور بالفرح والثقة بأن دنيانا العربية لا تزال بخير، وأن فلسطين ليست وحيدة، وأن كلمة الحق هي العليا، وأن هناك رجالاً رجالاً بهمم قمم، تنوء تحت حملها الجبال فلا تكلّ ولا تملّ، ولا تقرأ إلا في كتاب الحق، بينما يقرأ ما يتوهّمه الآخرون في كتاب القوة، وقد صار الحق بذاته قوة وصارت له قوة، ويعرف من يعرف أن المقاومة التي يزلزل ذكرها حسابات كبار القادة في كبريات عواصم العالم، قد ولدت في رحم هذا الإيمان، وقد كان لهذا الإنسان القمّة والهمّة البصمة الأساسية والتأسيسية .
– يتحدّث كثيرون ويتفلسفون ويغمزون بعيونهم، فيغمضون واحدة ويفتحون أخرى في الحديث عن علاقة الرئيس نبيه بري بسورية، سورية الرئيس حافظ الأسد، وسورية الرئيس بشار الأسد، ويوهمون لكنهم في الحقيقة يتوهّمون، أنّهم يعرفون ما لا يعرفه الآخرون عن مشاكل تمرّ بها هذه العلاقة، فيتلو النبيه على مسامعهم جميعاً مزاميره، «لا نستطيع الشعور بالمسؤولية تجاه الفلسطينيين وفلسطين ونحن نعزل سورية»، فسورية كانت ولا تزال وستبقى في العقل الذي نظر وينظر من خلاله نبيه بري المناضل والمقاوم، قبل رئيس المجلس النيابي، للمشهد العربي، حيث هي منذ البدايات إلى نهاية النهايات، حيث لا نهايات، فهي قلب العروبة النابض وهي قلعة المقاومة العصيّة على العصر والكسر معاً، وهي عرين أسود لا تُضام، ويكفي أنها القلب في بلاد الشام، وهو لمن لا يعرفون أو لا يعترفون، مع سورية ظالمة أو مظلومة، يجادلها وهي في عزّ سطوتها، حيث لا يجرؤ الكثيرون، من موقع البحث عن مكامن القوة العربيّة وتعزيزها، ونقاط الضعف والوهن وتلافيها، كشريك في الغرم، وليس كباحث عن شراكة في الغنم، لكنه عندما تتعرّض سورية للضيم ويأتي زمن الضراء، يشهر قلبه ويقاتل بشغافه كي تبقى سورية القوية القادرة الحاضرة، وهي مرتع الأحلام وساحة البطولات، وموطن الشهامة والوفاء، يعرفها وتعرفه، كما يعرف السيف غمده، وتعرف القلعة حراسها، وتعرف الساحة فرسانها، وفي الميدان يسرج برّي صهوة جواده ويقتحم، حيث لا يصل إلا صوته، فيُشهره عالياً، سورية مصدر فخركم وبدونها أنتم ذلّ وهوان، فحافظوا على بقايا الشهامة العربية المتهالكة، واحتموا بها، سورية لا تحتاج حمايتكم بل أنتم مَن يحتاجها، علامة أمة لم تُهزَم.
– عندما يتحدّث الرئيس نبيه بري عن فلسطين في خطابه الرسمي فهو لا يفاجئ، لأننا نعرفه، وليس لأن المقال لا يناسب المقام، لكن عندما يناقش بعفويته وتدفقه نصوص البيان الختامي، مداخلاً ومتدخّلاً، تشعر برغبة أن تقفز من وراء الشاشة لتطبع قبلة فخر على جبينه، فيناقش رئيس الجلسة عند فقرة التطبيع، ويقول «هذا البند هو كل المؤتمر سيدي الرئيس»، «لأن التطبيع يعني إزالة الحاجز النفسي بين العرب وبين العدو الإسرائيلي، دون إعطاء أية حقوق للفلسطينيين، نحن نقول ذلك وأمامنا مؤتمر القمة، وأحدد مؤتمر القمة في 2002 الذي دعت إليه المملكة العربية السعودية، فإذا سمحتم تنبّهوا أن هذا البند هو كل المؤتمر»، وعندما يستجيب المؤتمرون لإضافة الفقرة المقترحة برفض التطبيع، وفيها الدعوة لقيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 67 وعاصمتها القدس، يتذاكى المتزحلقون لنيل الرضى الأميركي بتحفيف مضمون النص، فيقترحون إضافة الشرقية إلى القدس، لتصير القدس الشرقية، فيهمّ بري إلى جواده مجدداً في جولة جديدة يكسبها، فيقول، أنا أقول القدس الشريف ويتلفت حوله منتظراً، ولما يأتي رد متفذلك، يلاحقه بكلمة قائلاً، لماذا نعطي بالمجان، طالما هم لا يعترفون فلماذا نتسابق على الاعتراف؟ ويمسك كلمة ويكتب، ويقول بصوت عالٍ: «نعم، القدس الشريف وينتهي الأمر».
– القضية ليست بأهميّة مصيريّة تقريريّة يتمتع بها مؤتمر الاتحاد البرلماني العربي، بل بأهمية نسخة من المواجهة التي تدار ويتم ربحها، من منصة يسيطر عليها وعلى التفكير فيها، عقل الهزيمة، فيطغى صوت الحق والحقيقة رغم قلة العدد والمال، حيث يجتمع المال والعدد، لأن المهابة التي تجلل صاحب الكلام، فيحضر التاريخ المليء بالنبض العربي الأصيل، فهو نور مبهر، ونصل صقيل، وصوت جهير، وهو في اللغة حقل مزهر، وفي الخطاب نصٌّ جزيل، وفي المضمون كبير وكثير وخطير.
– جولة ربحناها، ربحها نبيهُنا لنا، ربحتها العروبة ليكون الأمل بالغد لفلسطين.