إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر، التمويل والآفاق (35) حميدي العبدالله
آفاق عملية إعادة الإعمار لا ترتبط فقط بالوضع الجديد القائم الآن في العراق، وما يتيحه هذا الوضع من فرص لم تكن متوفرة في فترات سابقة بسبب القطيعة السياسية بين البلدين، بل إن عملية إعادة الإعمار في سورية تتزامن مع تغيير جذري واسع في العلاقات الدولية سيكون لـه تأثير على عملية إعادة الإعمار ويفتح فرص لم تكون متوفرة في فترات سابقة .
العلاقات الصينية- الأميركية هي واحدة من المتغيرات الدولية التي ستترك انعكاسات إيجابية في مصلحة عملية إعادة إعمار سورية. معروف أن الولايات المتحدة والحكومات الغربية ترهن عملية إعادة إعمار سورية بشروط سياسية، وهذه الشروط السياسية هي أقرب إلى الحرب على سورية واستقلالية قرارها، وهذه الشروط تسعى الولايات المتحدة لأن تتحقق عبر عملية إعادة الإعمار, أي أن ما عجزت الولايات المتحدة وحلفائها عن تحقيقه عبر الحرب الإرهابية طيلة أكثر من ثمان سنوات هي عمر الحرب التي استهدفت بالدرجة الأولى تدمير مقومات الاقتصاد لإرغام سورية على التخلي عن استقلالية قرارها, تريد تحقيقه من خلال الشروط التي تضعها لعملية إعادة الإعمار، ولوحظ في الأشهر الأخيرة من الحرب على سورية أن الولايات المتحدة والحكومات الغربية زادت من ضغوطها الاقتصادية لعرقلة التعافي وانطلاق عملية إعادة الإعمار، وكان يمكن لهذا الموقف المعادي أن يؤثر بشكل أكبر على عملية إعادة الإعمار ويطيل أمدها ويصعب على الدولة السورية الحصول على ما تحتاجه من مصادر متنوعة لو أن العلاقات الأميركية- الصينية كانت على ما هي عليه في عقود سابقة.
لكن العلاقات الأميركية- الصينية شهدت تحولاً جذرياً في السنوات القليلة الماضية، وتسارع هذا التحول مع مجيء الرئيس دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة. بدأ هذا التحول مع إدارة الرئيس باراك أوباما، إذ أن العقيدة القومية الأميركية الجديدة التي تشدد على أن الخطر على النفوذ والمصالح الأميركية تتركز في المحيط الباسيفكي وتحديداً في منطقة آسيا قد تمت صياغة هذه العقيدة في عهد الرئيس أوباما، ولكن الرئيس الأميركي دونالد ترامب بدأ وضعها موضع التطبيق بخطى أسرع مما كانت عليه في عهد الرئيس أوباما، وقادت إلى توترات تجارية واقتصادية وسياسية لم تشهدها العلاقات الأميركية- الصينية منذ أن بدأ التعاون الاقتصادي والتجاري والسياسي بين البلدين على خلفية العداء المشترك للاتحاد السوفيتي، وفي سياق سعي الصين للحصول على التكنولوجيا المتقدمة من الولايات المتحدة، وفتح الأسواق الغربية أمام المنتجات الصينية، عندما بدأت الاستراتيجية لاقتصادية الصينية تشدد على أهمية قطاع التصدير لتطوير الاقتصاد ورفع مستويات معيشة غالبية سكان الصين.
واضح أن عقود من التعاون الاقتصادي بين الصين والولايات المتحدة الذي سمح بتدفق الاستثمارات الأميركية في إطار تحرير التجارة والاتفاقات الخاصة الموقعة بين الولايات المتحدة والصين، أنتج ازدهاراً لاقتصاد كلا البلدين، ولكن في سياق هذا الازدهار بدأت تنشأ معادلات جديدة، ومن بين هذه المعادلات حدوث اختلال مزمن في الميزان التجاري لمصلحة الصين على حساب الولايات المتحدة. ترك هذا التطور تغييراً كبيراً في نظرة الولايات المتحدة للعولمة، فبعد أن كانت واشنطن ترى أن العولمة تصب في مصلحتها عبر فتح الأسواق العالمية أمام منتجاتها واستثماراتها، بدأت تقلق من هذا الانفتاح، وأدركت أن هذه العملية تعمل باتجاهات مختلفة، ولهذا وحتى في فترة تولي الرئيس باراك أوباما سدة الحكم في الولايات المتحدة، أطلق تصريحات تفيد بأن العولمة فيها جانب مقلق بالنسبة للولايات المتحدة.
ويمكن القول إن فوز الرئيس دونالد ترامب، وهو من خارج النسق التقليدي من عناصر النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة جاء تحت تأثير هذا الجانب المقلق من العولمة الذي تحدث عنه الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.، الجانب المقلق يتمثل في حقيقة أن السلع المنتجة في الولايات المتحدة لم تعد قادرة على منافسة السلع المنتجة في الصين، سواء من قبل شركات أميركية نقلت استثماراتها إلى الصين بحثاً عن المدخلات الرخيصة لتعظيم أرباحها، وللصمود في وجه المنافسة التجارية التي لا ترحم، أو نتيجة السلع التي أنتجها شركات صينية بجودة لا تقل عن جودة المنتجات الأميركية، ولم تعد هذه المنافسة محصورة بالسلع التي سمحت الدول المتقدمة للدول النامية العمل على إنتاجها لأن قيمتها المضافة متدنية، وأرباحها قليلة، بل شملت المنافسة أيضاً قطاع التكنولوجيا المتقدمة، وفي مقدمتها صناعة الهواتف الذكية، ولعل القيود الجديدة التي فرضتها الولايات المتحدة على شركة «هواوي» الصينية خير مثال على ما وصلت إليه المنافسة بين البلدين وأثرت هذه المنافسة التجارية على العلاقة الوطيدة بينهما.
تجربة حكم الرئيس دونالد ترامب، وقبل ذلك تجربة حكم الرئيس باراك أوباما، تؤكد أن أفق العلاقات الاقتصادية والتجارية، وبالتالي السياسية بين الولايات المتحدة والصين، هو أفق متوتر، ويتوقع تصاعد هذا التوتر الذي انتقل إلى مستوى جديد مع اندلاع الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة إثر قرارات أصدرها الرئيس الأميركي وتم بموجبها رفع المرسوم الجمركية على البضائع الصينية بنسب تتعارض مع ما نصت عليه الاتفاقات الموقعة بين البلدين، وما نصت عليه قوانين منظمة التجارة الدولية.
وقد اضطرت الصين إلى الرد بالمثل. وتسبب هذا التوتر التجاري- الاقتصادي بتوتر سياسي، دفع القيمين على صنع القرار في الولايات المتحدة إلى إدراج الصين في مقدمة الدول التي تشكل تهديداً للأمن القومي الأميركي، وتمثل تهديداً للمصالح الأميركية الأكثر حيوية.
إلقاء نظرة على جذور الخلاف القائم الآن بين الولايات المتحدة والصين يؤكد أن الأزمة الحالية التي تعصف بالعلاقات الصينية- الأميركية ليست أزمة عابرة، وليس ما يجري هو أخطر فصولها وأكثرها تدهوراً، بل إن الأفق القريب يوحي بمزيد من التوتر، ومن الصعب التغلب على العوامل التي سببت هذا التوتر لأنها عوامل مرتبطة بمصالح متعارضة يصعب التوفيق بينها، لأن أي تنازل تقدمه واشنطن أو بكين سيكون على حساب مصالحهما القومية.
ما تقدم يعني أن كلا الدولتين لن تعمل بتعاون وتنسيق مشترك، وأن التوتر بينهما سيدفع كل دولة منهما للبحث عن حلفاء وشركاء لتقوية موقعها وتأمين صمودها في وجه الطرف الآخر، وللتعويض عن خسائر ستلحق بها جراء تبادل الإجراءات التجارية والتحديات الاقتصادية.
وهذا ستكون لـه انعكاسات سياسية، وقد ظهرت بوادر هذه الانعكاسات السياسية باقتراب الصين أكثر من أي وقت سابق من روسيا، والتعاون المشترك فيما بينهما في مجالات سياسية واقتصادية وعسكرية على نحو غير مسبوق في تاريخ البلدين. وفيما يخص سورية ظهرت تجليات الخلاف والتعارض بين السياسة الأميركية والسياسة الصينية في المواقف من الدولة السورية ومن الحرب الإرهابية على سورية، ففي حين دعمت الولايات المتحدة بكل قوتها الحرب الإرهابية على سورية، عارضت الصين هذه الحرب، ودعت إلى حل الأزمة الناجمة عن الحرب الإرهابية بطرق سلمية، واستخدمت الفيتو أكثر من مرة إلى جانب روسيا لتعطيل قرارات في مجلس الأمن حاولت تمريرها الولايات المتحدة والحكومات الغربية.
والأرجح أن تجليات هذا الخلاف لن تظل محصورة في المجال السياسي، بل سوف تتعداه إلى المجال التجاري والاقتصادي، حيث ستكون الصين في وضع يمكنها من رفض الضغوط الأميركية وعدم الاستجابة للدعوات الأميركية والغربية التي تسعى إلى عرقلة عملية إعادة إعمار سورية، أو ربط هذه العميلة بشروط مثل الشروط التي تضعها الولايات المتحدة والحكومات الغربية.