(لا) مكافحة الفساد: تراث لبناني منذ بشارة الخوري: نقولا ناصيف
غالباً ما ردّد الرئيس سامي الصلح عبارة «السمكة تفسد من رأسها». عنى بها – والكثيرون الذين ردّدوها من بعده – أن الفساد يُستأصل أولاً في الرؤوس الكبيرة قبل الصغيرة التي تقتدي بأولئك
منذ أول رئيس استقلالي، هو الشيخ بشارة الخوري، ظهر تعبير «الفساد» وشاع. قيل إنه سمح بالسابقة، منذ ولايته الثانية عام 1948، ثم راحت لعنتها تلاحق العهود التالية.
ثمة ما هو أول أيضاً مع الشيخ بشارة بعيد استقالته عام 1952، وتردّد آنذاك أن من أسباب إرغامه على الاستقالة – والواقع أنه هو الذي قرّر التنحّي ولم يُرغم عليه وإلى جانبه غالبية نيابية – تفشّي الفساد. منذ عام 1950 كان مألوفاً أن يُسمع أن في لبنان «سرايا البرج» مقر رئاسة الحكومة، و«سرايا فرن الشباك» بيت شقيق الرئيس الشيخ سليم الخوري الملقّب بـ«السلطان». عندما خلفه الرئيس كميل شمعون، أول خلافه مع حليفه كمال جنبلاط سببه الرئيس المتنحّي. جنبلاط يريد محاكمته وسجنه، وشمعون بعدما تحمّس لمحاسبته قبل انتخابه عدل وأعاد التفكير في مغزى الموافقة عليها. رفض محاكمة سلفه بتهمة الفساد، استناداً إلى وجهة نظر صارت قاعدة نموذجية بل مثالية للعهود المتعاقبة: لأن كل عهد قد يكون مفطوراً على تجاوزات وارتكابات ومخالفة القوانين، وصولاً إلى استغلال السلطة، وكانت تعني كلها آنذاك فساداً، قرّر شمعون أن لا يكرّس السابقة، فلا يأتي من بعده عهد يحاكمه أو يُحاكم أي رئيس لاحق. مذذاك، قبل أن تبصر النور، سقطت نهائياً فكرة المحاسبة والمحاكمة. عندما أتى الرئيس فؤاد شهاب قال المحيطون به إن سلفه – وكانا خصمين لدودين – جمع من حوله فاسدين، فلم يتخذ قرار المحاسبة ولا التحقيق حتى في ما حدث جراء استمرار نفاذ القاعدة النموذجية تلك. مع الرئيس شارل حلو كان ثمة مَن يتهم الشعبة الثانية، لمجرد تدخّلها في السياسة وشؤون السياسيين، بالفساد ايضاً، فلم توجّه إلى أيٍّ من ضباطها لدى محاكمتهم عامي 1971 و1973 تهمة الإثراء. في عهد حلو اقترن الإصلاح بالتطهير عام 1965 بإقالة موظفين كبار من مناصبهم، بينهم قضاة بارزون، أحدهم رئيس مجلس الشورى، والآخر رئيس ديوان المحاسبة، وسفراء، مع أن حلو فضّل القول إنه إصلاح وليس تطهيراً. لم يسلم الرئيس سليمان فرنجية من التهمة نفسها، مذ قال العميد ريمون إده – وهو أحد مَن اقترعوا بحماسة له وناوأه لاحقاً – إنه «عهد كول واشكور». حينذاك قيل إن الزغرتاويين اجتاحوا الإدارة اللبنانية وأصبحوا أقوى النافذين فيها. باندلاع الحرب في السنة ما قبل الأخيرة من عهد فرنجية، سقط تعبير الفساد من الاصطلاح السياسي مذ باتت الميليشيات هي المسيطرة.
حتى الحرب استُعيض عن المحاسبة والمحاكمة في كل ما هو فاسد بعبارة «عفا الله عمّا مضى». كان أيضاً ثمة عقاب مستتر يتبع شفاعة العبارة تلك في غضّ النظر عن ارتكابات العهد السابق، بتوجيه الأنظار أولاً إلى رئيس الجمهورية على أنه «سيد العهد»، بسبب تمركز معظم الصلاحيات والتعيينات الرئيسية عنده ونفوذه القوي، من غير أن يؤتى على ذكر فساد رئيس حكومة أو وزير أو نائب حتى يحظى بحماية الرئيس. إذذاك، كان على كل عهد جديد يخلف «العهد الفاسد» الذي سبقه، أن يُقدِم على إطاحة رجالاته في الإدارة والأسلاك العسكرية والأمنية والقضاء والسفارات والمناصب الرئيسية. مع العهد الجديد يأتي رجالاته، ويذهبون بانطواء ولايته. يفسّر هذا التصرف من دون أن يبرّره بالضرورة، أن الرئيس الخلف كان خصم الرئيس السلف، وأحياناً عدوّه وليس منافسه فقط، كما أن الغالبية النيابية الموالية للسلف تتحوّل غداة انتخاب الخلف بسحر ساحر إلى موالاته. بذلك، راحت صفحات العهود تتقلّب من غير خضات.
وحدها، على مرّ العقود الماضية، لبثت في الذاكرة سابقة التطهير في عهد حلو، ولم يكن المُحاسِبون رئيس الجمهورية أو مجلس الوزراء أو مجلس النواب – على غرار ما يبدو الآن – بل هيئتين إحداهما قضائية وأخرى إدارية، أمرتا بصرف المشمولين بالتطهير. أولى الخطوات الحتمية والضرورية كانت رفع الحصانة عن الموظفين، فآلت إلى إخراج عشرات القضاة ومئات من السفراء والأطباء والمهندسين والموظفين من مناصبهم.
ما تشهده التجربة الحالية في مرحلة ما بعد اتفاق الطائف، لا يشبه التجربة المنصرمة.
حينما قال حلو إن أول الإصلاح رفع الحصانة
منذ عام 1992 الذي أذِنَ بالبدء الفعلي المقرِّر للحقبة السورية، طبقة سياسية واحدة أحكمت السيطرة على الحياة السياسية اللبنانية وسلطاتها والمؤسسات، هم رجالات الحقبة السورية. هي نفسها استمرت بعد جلاء السوريين، ولا تزال نفسها الآن. تغيّر رئيسان للجمهورية في ظل السوريين، ورئيسان للجمهورية بعدهم، وستة برلمانات، و15 حكومة على رأسها سبعة رؤساء حكومة، ومئات من النواب والوزراء، إلا أن الطبقة السياسية لا تزال نفسها برموزها. رموزها الأولى في الحقبة السورية الزعماء الأولون في طوائفهم (السنّة والدروز والشيعة). بعد مغادرة الجيش السوري، وصولاً إلى ما بعد اتفاق الدوحة، دخل رمز مسيحي مؤثر وفاعل هو التيار الوطني الحر، بعدما كانت القوات اللبنانية وحزب الكتائب قد تظلّلا بتيار المستقبل عام 2005 لدخول السلطة الإجرائية للمرة الأولى منذ عام 1992.
لم تحتج الطبقة السياسية الحالية إلى شعار «عفا الله عمّا مضى» لسبب بسيط بديهي، أن أفرقاءها – وإن في ظل تناحرهم على التفاصيل – متحالفون، أرسوا أكثر من معادلة بغية تبرير تماسك هذا التحالف والبقاء داخل السلطات والمؤسسات: أولاها في الحقبة السورية أنهم جميعاً تحت سقف دمشق في كل خياراتها الاستراتيجية وهي التي توزّع عليهم الحصص والمكاسب. ثم معادلة ثانية منذ عام 2005 طرفاها فريقا 8 و14 آذار قبل أن ينطفئا من تلقائهما. ثم معادلة ثالثة قضت بتوازن النزاع السنّي – الشيعي منذ عام 2008، وصولاً إلى المعادلة الرابعة الحالية، وهي تسوية 2016 بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري وثالثهما ثنائي حزب الله وحركة أمل. ولأنها منبثقة من اتفاق الطائف، أصبحت الطبقة السياسية الحالية القائدة الفعلية، والجماعية، للدستور والنظام وآلة الحكم ومصالح الدولة.
منذ عام 1992 أنشأت الطبقة السياسية هذه، طبقة موازية من الموظفين الموالين لها، المنتسبين إلى شخصياتها أو أحزابها، في الإدارة والأسلاك العسكرية والأمنية والقضاء وفي المناصب الرئيسية، وفرضت مرجعياتها صاحبة الحقوق الصارمة في تقاسم الوظائف والحصص على الطوائف، ومن خلالها على أحزابها. على نحو كهذا، ولأنهم واحد، يصعب العثور على عهد خلف خصم لعهد سلف كي يحاسبه ويحاكمه، مقدار ما يصعب على المرجعيات معاقبة رجالها في مؤسسات الدولة، خصوصاً أن السجال الأكثر رواجاً لدفن ملف الفساد والارتكابات، ينبثق من فكرة تتحوّل تدريجاً «ميثاقية»: معاقبة موظف يتحوّل للتو إلى معاقبة طائفة برمتها واستهدافها. سبب كافٍ وحتمي كي لا يُفتح أبداً.
إذذاك يكمن مغزى ما قاله حلو يوماً عن الإصلاح الذي توخاه، وأوله رفع الحصانة.
(الاخبار)