جورج زريق: حريق بلد وليس تعليم ولد: ناصر قنديل
– الوالد جورج زريق الذي أحرق نفسه حتى الموت في فناء مدرسة أولاده بعدما ضاق به الحال في مواجهة القدرة على تأمين مستلزمات حياة أولاده وفي مقدّمتها مواصلتهم للتعليم، واحد من مئات بل آلاف الآباء اللبنانيين الذين يجدون أنفسهم أمام جدار اليأس، والتعليقات وردود الأفعال التي حملها الحدث الأول من نوعه في لبنان، والذي تقشعرّ له الأبدان، تزيد من الخوف والقلق، وتثير الرعب بمقدار ما تفعل صورة الوالد المحترق قهراً لعجزه عن تدبّر أمور الحياة لأولاده .
– التسابق على تقديم الحلول لتعليم أولاد جورج زريق أو على الحديث عن الحاجة لحلول في مجال التعليم في مواجهة وحش الأكلاف المالية الذي ينهش العائلات اللبنانية، أمر جيد ومقدّر لأصحابه، لكنه مثل بعض التعليقات التي ركزت على مناقشة حال الانتحار حرقاً التي اختارها الوالد المقهور، والبحث في تفسيرها نفسياً وربما دينياً، ومقارنتها بالسبب المباشر وصولاً لوقوع البعض في محاكمة الوالد المقهور الذي أنهى حياته تسليماً بالعجز عن مواصلتها، وربما أملاً باستصراخ ضمائر من بيدهم الحل والربط.
– الحقيقة المرّة التي يكشفها جورج زريق هي أن كل صمامات الأمان الاجتماعية التقليدية قد استنفدت، ولم تعد تعمل. فالدولة قررت التعامل مع مواطنيها كزبائن في مجالات الصحة والتعليم منذ زمن، وتقيم المفاضلة فقط بين جعلهم زبائن لديها أو تجييرهم كزبائن للقطاع الخاص. فالمواطن لا يشعر في هذين المجالين بالأمان الاجتماعي كمواطن له دولة تحميه وترعاه، فهو مجرد زبون، يطرد من صالة الانتظار ما لم يسدّد الفاتورة، أو يمنع من الدخول إلى المستشفى أو يمنع أولاده من دخول المدرسة، ما لم يسدد سلفاً المتوجبات عليه كزبون.
– الأحزاب والزعامات التي كانت تولي الشأن الاجتماعي لجمهورها جانباً كبيراً من الاهتمام وتضعه في أولويات جداول أعمالها، والتي كانت مكاتبها تعجّ بالمراجعين، وكانت المداخلات والمراجعات بالمئات لحالات تحتاج التدخل تستهلك جزءاً أساسياً من عمل النواب والزعماء والأحزاب، ومعها موازنات تخصص لإسعاف الحالات التي لا تحتمل الانتظار، غائبة بالكامل قياساً بما كان عليه الحال قبل عقد أو أكثر. والشكوى من الأبواب الموصدة عامة وشاملة، أما أشكال التضامن الاجتماعي الأخرى التي كانت تؤمنها الجمعيات والهيئات الدينية فهي الأخرى تسلل الفساد والزبائنية إليها، وخير مثال مقارنة وضع المدارس والمستشفيات العائدة للمؤسسات الدينية بمثيلاتها التجارية في المعاملة والأسعار، بعدما صار الرعايا مجرد زبائن، وللتذكير يجب القول إن كل المؤسسات الدينية التعليمية والاستشفائية أنشأت تحت عناوين خيرية واجتماعية، أما عن الجمعيات الخيرية والاجتماعية فحدث ولا حرج، وقد فقد الكثير من القيّمين عليها الخجل، ولم يعد يخشى أغلبها تزوير الفواتير والموازنات التي يرفعها للدولة تسديداً للمساعدات التي يتلقاها، أو للهيئات الدولية والأجنبية التي لم تعد تهتم إلا للجانب السياسي من ولاء هذه الجمعيات بدلاً من التركيز على فاعليتها ومصداقيتها، وخير مثال حال النازحين السوريين قياساً بحجم الأموال التي تتدفّق تحت شعار دعمهم.
– يشعر اللبنانيون أن ظهرهم بات إلى الجدار، وأنهم متروكون لقدرهم المجهول في مواجهة كل أزمة، حيث لا دولة ولا مجتمع، حتى التضامن العائلي فقد الكثير من حرارة أيام الماضي. وهذا يجب أن يعني في قراءة حريق الوالد المقهور، الشعور بالخطر بأننا أمام حريق بلد، وأن المعالجات إن لم تكن على هذا المستوى، فهي مجرد رفع عتب، والمعني الأول هو الدولة، ونحن ننزلق أكثر فأكثر نحو عقل التاجر والزبون في معاملة الدولة لمواطنيها، والحكومة التي تنال الثقة من مجلس النواب بعد أيام معنية بالإجابة عن سؤال، كيف ستتعامل مع قضايا التعليم والصحة، عقلية التاجر والزبون أم عقلية دولة الرعاية والمواطنين، وروح المواطنة واحدة لا تتجزأ، فبعدما سلمت الدولة مواطنيها للطوائف، وسارت الطوائف على خطى الدولة بعقل التاجر والزبون، البلد يحترق، وجورج يحترق، وأكثر من جورج يحترق، فهل تستردّ الدولة ذاتها لتسترد مواطنيها؟