فرنسا في سورية: ذيل استعماري
غالب قنديل
منذ إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره بسحب الوحدات الأميركية من سورية لم يتوقف العويل والصراخ والتفجع في باريس الحريصة على مظهرها الأنيق الذي لا يمكن أن تستر به بشاعة دورها كملحق استعماري مرتبط بالإمبراطورية الأميركية.
الدولة الاستعمارية العجوز تعتاش على ذكريات احتلالها للشرق العربي وفي قلبه سورية التي أبكت جنرالات فرنسا وآلمت جيوشها الاستعمارية بمقاومة ضارية خاضها ثوار شجعان من أبناء سورية وقادتها الذين رفضوا الانتداب الاستعماري وأسقطوا فتنة المستعمر لتمزيقهم.
يتذكر زعماء فرنسا ماضي نهبهم للشرق العربي ويحنون إليه ويتجاهلون مصائر أسلافهم في المغامرة بتحدي إرادة التحرر والاستقلال والعروبة الراسخة في وجدان السوريين.
يعيد التاريخ نفسه مهزلة هذه المرة فالإمبراطورية العجوز يقودها “صبيان الذهب” وهو اللقب المهني المتعارف عليه في وول ستريت للوكلاء والسماسرة الناشطين في قاعات المضاربة المالية بالأسهم والسندات العالمية وصبيان الذهب التابعون للسيد الأميركي يريدون اصطناع مظاهر العظمة الإمبراطورية بحشر انوفهم خلف الإمبراطورية الأميركية التي يهابون تحديها او مخالفة مشيئتها.
فرنسا مستتبعة بالمال وبالمشيئة السياسية وبالهيمنة المخابراتية وهي بالكاد تجرؤ على تحدي واشنطن ولو شكلا في العديد من القضايا والشؤون حتى تلك التي تحتمل غواية مصلحية مفترضة وتقتضي عصيانا على الأوامر الأميركية كالاتفاق النووي الإيراني حيث تبقي باريس شوطها معلقا لتفاوض الأميركي على خدمات قد يطلبها وربما تستدعي استثمار خطوط التواصل مع طهران فلا هي تكمل لكسر مشيئة واشنطن وتل أبيب ولا هي تدير الظهر لفرصة مغرية لكنها بالتأكيد غير جديرة بموقع المركز العالمي المستقل المناهض للهيمنة الأميركية الذي أمل الرئيس فلاديمير بوتين في ان تختاره “الشريكة الأوروبية” المترددة.
تعاملت سورية مع فرنسا كفرصة غربية محتملة للتمايز عن السياسة الاستعمارية الأميركية طيلة عقدين من الزمن وكلما كانت الولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني تقرران تصعيد الحملات العدوانية ضد سورية والشرق العربي كانت ركائز الصداقة تنقلب إلى منصات لخناجر الغدر وتتحول إلى بؤر انقلابات تفوح قيحا ولؤما استعماريا خبيثا وفي السنوات التي سبقت العدوان الاستعماري الأخير حولت فرنسا كل منصات الصداقة والشراكة التي اخلصت سورية في التعامل معها إلى أدوات اختراق وتخطيط لتدمير سورية وضرب استقلالها ولكسر إرادتها التحررية المقاومة وقد فضحت تقارير الجمعية الوطنية الفرنسية كيف تحولت وفودها البرلمانية المكلفة لمناقشة الشراكة مع سورية إلى فرق كشافة لاعتلام الثغرات التي يجب استهدافها لمحاولة إخضاع سورية وتدمير استقلالها.
تسللت فرنسا إلى الشرق السوري خلف قوات الغزو الأميركية لكن مانويل ماكرون تنطح لرفع سقف تهديدات يعرف أنه ليس قادرا على تنفيذها لكنه يعتمد على سيده الأميركي وعلى الكيان الصهيوني الذي لبوا جميعا نداءه لنجدته من مخاطر هزيمة ثوار الناتو وانتصار بشار الأسد وانبثاق زعامته التاريخية ماردا عربيا يخطط لتحرير الشرق ويعيد الحياة لفكرة الوحدة العربية بنسخة معاصرة تطلق طاقات الأمة العربية وتجمع شبكة من الحلفاء الشرقيين.
ماكرون منزعج مثل ترامب من الوجود الإيراني في سورية الذي يكثر نتنياهو من الكلام عنه وهو واقعيا وجود رمزي لخبراء ومستشارين لكن إيران هي حليف موثوق لسورية منذ أربعين عاما وليست حدثا طارئا استجلبته مجابهة العدوان وقد رسخته مؤخرا اتفاقات ومعاهدات بات معها التعاون الدفاعي والصناعي بين البلدين شأنا سياديا لا يخص أي جهة ثالثة (وفقا للقانون الدولي ولقواعده وأعرافه) وبالأخص إسرائيل وحراسها الغربيون الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا العظمى !!
ندبت صحيفة الفيغارو مؤخرا حظ فرنسا العاثر بعد قرار ترامب واستنتجت بأسى ان الانسحاب الفرنسي سيعقب بالضرورة خروج الجنود الأميركيين من سورية وقد اعتبرت ان الهزيمة ستكون مبرمة لجميع الدول الغربية وألمحت إلى تحرك سياسي ودبلوماسي فرنسي لاعتراض مسار الأحداث التي تهدد النفوذ الغربي في سورية.
طبعا لم ينس محررو الفيغارو اجترار القيء الفرنسي والأميركي عن الأسلحة الكيماوية والمذابح وهي بضاعة فاسدة وتالفة افتضح أمرها من سنوات في محاولة تصنيع الذرائع لغزو سورية التي ألحقت مع حلفائها الكبار هزيمة نكراء بحلف العدوان الذي حشدت فيه تسعون دولة من انحاء العالم بزعامة الولايات المتحدة وكانت فرنسا فيه تلعب دور الحارس الشرس الذي يعلو صراخه كلما اقترب الخطر من سيديه الأميركي والإسرائيلي.
تتمسك حكومة فرنسا بإبقاء مئات الجنود في الشرق السوري لتحقيق غاية تعرف انها صعبة ومكلفة وهي كما تسرد الفيغارو حرمان الرئيس بشار الأسد وروسيا من تحقيق انتصارهما الحاسم بالاشتراك مع إيران ومحاولة التأثير على مضمون الحل السياسي السوري.
الكذبة الأشنع في الخطاب الفرنسي هي “الكفاح ضد داعش والقاعدة ” أي ما تبقى من “ثوار الحرية” على أرض سورية فتلك هي التسمية الأصلية للجماعات السورية المسلحة وللإرساليات متعددة الجنسيات من المحاربين الذين حشدوا من قاعات مساجد فرنسا وألمانيا والسويد وأسبانيا وبريطانيا عبر تنظيمات الأخوان المسلمين وغيرهم من محميات المخابرات الأطلسية في اوروبا والولايات المتحدة ومن اوكار متعددة في البلاد العربية تحت الحماية وبالدعم المالي والعسكري الوفير الذي بذلته المملكة السعودية ودولة قطر.