إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (29) حميدي العبدالله
بعض الدول العربية تشكل هي الأخرى مصدراً من مصادر الإسهام في تمويل عملية إعادة الإعمار. لا شك أن مواقف بعض الحكومات العربية زرع الكثير من العراقيل في وجه المساهمة العربية في عملية إعادة البناء، لا سيما لجهة مشاركة دول في تمويل ودعم الحرب الإرهابية التي شنت على سورية وكانت السبب وراء هذا الخراب الكبير الذي حل بالكثير من المرافق ومراكز الإنتاج.
لكن يمكن القول إن دولتين عربيتين كان لهما دور كبير يصعب تجاهله ويصعب إعادة العلاقات إلى وضعها الطبيعي معهما، وبالتالي سهولة مشاركة هذه الدول في عملية إعادة الإعمار، وهاتان الدولتان هما قطر بالدرجة الأولى ومن ثم المملكة العربية السعودية. لكن من المعروف إن إسهام هاتين الدولتين في الاستثمار في سورية كانت محدودة للغاية حتى عندما كانت العلاقات بين سورية وقطر في أوجها حيث لم تكن مساهمات قطر تتجاوز شراء وبناء بعض القصور للأمراء القطريين، أم الاستثمارات السعودية فقد كانت محدودة وربما كانت محصورة بإسهام شركة الأمير الوليد بن طلال في بناء بعض المرافق السياحية، مثل سلسة روتانا والفورسيزن.
بقية الدول العربية لم يكن إسهامها في دعم الإرهاب يصل إلى مستوى يمكن أن يدفع لوضع فيتو على مساهمتها في عملية إعادة الإعمار، إذا أرادت المساهمة، مثل مسقط والكويت والإمارات العربية التي ينشط مستثمروها في أنحاء مختلفة من الوطن العربي وكان لديهم استثمارات هامة في سورية، مثل «إعمار» وشركات ماجد الفطيم.
واضح، وبمعزل عن مرارة الموقف من بعض الحكومات العربية ودعمها للحرب الإرهابية التي كان لها الدور الأكبر في تدمير سورية أن عمق سورية الاقتصادي والتجاري هو البلاد العربية، ولا يمكن لسورية وليس من مصلحتها ولا تستطيع الاستغناء عن هذا العمق، بدليل أنه ما إن تم فتح الحدود بين سورية والأردن حتى استؤنفت عملية التبادل التجاري بين البلدين، كما استؤنفت عملية التصدير إلى الخليج العربي من البوابة الأردنية وهي بوابة شبه حصرية، علماً أن الأردن كان له دور كبير في الحرب الإرهابية التي شنت على سورية، سواء من خلال استضافة غرفة «الموك» أو تسهيل دخول السلاح والإرهابيين إلى سورية، بل شارك الأردن في الحملات السياسية والإعلامية التي سعت إلى زعزعة استقرار سورية وتبرير الحرب الإرهابية عليها، ولكن كل ذلك لم يحل دون بدء عودة الحياة الطبيعية إلى العلاقة بين البلدين لأن في ذلك مصلحة مشتركة لهما ولا يمكن الاستغناء عن العلاقة التي للواقع الجغرافي دور كبير في فرضها.
إذا ما أخذ بعين الاعتبار أن التطبيع التجاري بين سورية وبعض البلدان العربية، حتى التي شاركت بأشكال مختلفة في دعم الحرب الإرهابية، بات أمراً واقعاً الآن ليس فقط بعد فتح الحدود بين سورية والأردن، وتوقيع اتفاقات جديدة تنظم تدفق وتبادل السلع التجارية بين البلدين، بل وأيضاً بعد قيام وفد من رجال الأعمال السوريين بزيارة دولة الإمارات العربية بدعوة من اتحاد غرفة التجارة والصناعات في الإمارات العربية، وأعلن أن وفد الغرف السورية بحث مع نظيره الإماراتي «إمكانيات وسبل التعاون المشترك، وخاصة تطوير العلاقات التجارية، وبحث فرص تأسيس المشروعات المشتركة، والتعاون المصرفي والعديد من القضايا الاقتصادية» كما قال سامر الدبس رئيس مجلس إدارة غرفة صناعة دمشق وريفها.
لا شك أن هذه الخطوة تعكس مصلحة مشتركة بين سورية ودولة الإمارات العربية، ومثل هذه المصالح المشتركة تجمع سورية مع بقية الأقطار العربية، وإن كان بشكل متفاوت. هذه الوقائع تبين أن بعض البلدان العربية، ولاسيما تلك التي لديها فائض في استثماراتها ووصل الاستثمار في بلادها إلى مرحلة الإشباع، لها مصلحة في البحث عن مجالات استثمار جديدة، وإذا كانت سورية قبل الحرب ساحة واعدة لمثل هذه الاستثمارات، وكانت قد بدأت فعلاً، كما هو حال الاستثمارات العقارية من قبل الإمارات العربية والاستثمارات في قطاع الفنادق كما هو الحال بالنسبة لبعض الاستثمارات السعودية والكويتية، فإن سورية بسبب الحرب والدمار الكبير هي ساحة جذب للاستثمارات الخارجية، ولاسيما العربية، وتحديداً من قبل الشركات العربية التي كانت لها مساهمات سابقة في الاستثمار في سورية.
الأرجح أن استعادة زخم هذه الاستثمارات وتعظيمه سوف يشكل واحداً من مصادر تمويل عملية إعادة الإعمار في سورية طالما أن هذه العملية ترتكز بالأساس على تبادل المنافع بين سورية وبين أي جهة مستثمرة مهما كانت جنسية هذه الجهة.
من المعروف أن هناك موقف مبدئي سوري، يرتكز على مبدأ عدم السماح لأي جهة معادية في إعادة بناء سورية وإعمار ما هدمته الحرب، وحرمان هذه الجهة من المكاسب التي تحققها عملية إعادة الإعمار. لكن هذا المبدأ ينطبق على الجهات التي ساهمت ودعمت الحرب الإرهابية على سورية، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على الحكومات وعلى القطاع الحكومي، ولكنه لا يشمل القطاع الخاص الذي لم يكن له أي دور في الحرب الإرهابية على سورية. ثم إن التطبيع مع الحكومات الذي هو في النهاية قدر الدولة والشعب السوري من شأنه أن يزيل أهم العقبات التي تعترض إسهام مصادر عربية في تمويل عملية إعادة الإعمار على قاعدة المصلحة المشتركة، ومرة أخرى يمكن القول إن حكومات مثل حكومات قطر والسعودية هي التي ينطبق عليها رفض إسهامها في إعادة إعمار سورية نظراً لأنها ذهبت بعيداً في دعم الحرب الإرهابية على سورية، ولكن ذلك مثلاً لا يشمل شركات تابعة للقطاع الخاص ولم يكن لها أي دور في دعم هذه الحرب، وكان لديها استثمارات في سورية مثل شركات الوليد بن طلال.
على أية حال عملية الإسهام في إعادة الإعمار عربياً ستخضع لنوع من أنواع الانتقائية، وهذا حق سيادي للدولة السورية. مثلاً يمكن قبول مساهمة شركات لبنانية في عملية إعادة الإعمار ليست مرتبطة بالجهات الحزبية التي دعمت الحرب الإرهابية على سورية، مثل تلك الشركات التي تربطها علاقات بآل الحريري أو قوى سياسية أخرى. لكن من المعروف أن جهات لبنانية عديدة وقفت إلى جانب سورية في حربها ضد الإرهاب، ولديها شركات تنشط في مجال الاستثمار، وبالتالي يمكن لهذه الشركات أن تساهم في تمويل عملية إعادة الإعمار.
المبدأ ذاته يمكن أن يطبق على كافة البلدان العربية، أي عندما تتقدم أي شركة عربية للمشاركة في عملية إعادة الإعمار، يجري التدقيق في ارتباطات هذه الشركة وملكيتها، ومساهمتها أو عدم مساهمتها في تمويل الحرب الإرهابية على سورية، وفي ضوء مثل هذا التدقيق يتخذ القرار لجهة منحها رخصة العمل في سورية أو رفض طلبها.
لا شك أن في الدول العربية استثمارات فائضة ولاسيما في دول الخليج على الرغم من الضائقة المالية الناجمة عن انخفاض أسعار النفط، وكلفة الحروب، والفوضى المسلحة التي اجتاحت الدول العربية وكبدت الاستثمارات العربية خسائر كبيرة.
المطلوب اليوم عقد مؤتمرات، وإجراء اتصالات من نمط الاتصال بين غرف الصناعة والتجارة السورية والإماراتية لحث المستثمرين العرب على التوجه للاستثمار في سورية، ووضع خطط توجيهية ترشد الاستثمارات وتحدد مجالات عملها، وإزالة أية عراقيل تعترض تدفق الاستثمار.
إذا كانت تنمية سورية قبل الحرب استدعت مشاركة الاستثمارات العربية في عملية التنمية، حتى عندما كانت سورية من أكثر الدول العربية ادخاراً، فمن البديهي أن سورية اليوم وبعد الحرب التي خلفت كل هذا الدمار هي بحاجة للاستثمارات العربية، مهما كان حجمها وطبيعتها, للإسهام في عملية إعادة الإعمار وإعادة بناء سورية، وإطلاق مسيرة التنمية من جديد، ولا يجب تحت أي ظرف كان إدارة الظهر للاستثمارات العربية كمصدر من مصارد تمويل إعادة الإعمار حتى وإن كان يأتي في مرتبة متأخرة مقارنةً مع المصادر الأخرى.