اعترافات أميركية واوهام عربية
غالب قنديل
تطوف في الواقع الإعلامي والسياسي العربي كمية من التكهنات والتوقعات والأوهام في التعامل مع السياسة الأميركية واهدافها بعد فشل العدوان على سورية وانكسار غزوة التكفير التي كانت نموذجا قويا لحروب الوكالة التي قادها المخططون الأميركيون وانتجوا ادواتها في ميادين الاحتلال والحروب المباشرة وبالواسطة منذ غزو العراق.
حرك قرار دونالد ترامب بالهروب من سورية كل ذلك في مناخ مشحون بالمخاوف والرعب والارتباك في دوائر القرار الصهيوني وفي صفوف الحكومات التي تورطت تحت الإمرة الأميركية ماليا وسياسيا واستخباراتيا بخوض جميع تلك الحروب تحت القيادة الأميركية وفي ظل انقسامات وخلافات داخل كتلة الحكومات التابعة للهيمنة الأميركية أبرزها ما رسمه الخلاف السعودي مع قطر وتركيا.
تواجه الولايات المتحدة الخيبة والفشل في سورية وفي العراق وفي اليمن وكذلك في إيران التي تحرص واشنطن وتل أبيب على وصفها بالعدو رقم واحد وقد تبين في التجربة مدى القدرة الإيرانية على صد موجة العقوبات والحصار المستمر فعليا منذ انتصار الثورة التي تحل ذكراها الأربعون هذه السنة ويتأكد ثباتها على خيارها الاستقلالي التحرري.
تروج آلة التضليل الأميركية الغربية الخليجية من جديد لهدف وهمي متخيل هو تفكيك محور المقاومة رغم فشل محاولات تحقيقه قبل العدوان على سورية وخلاله وبعده فهذا المحور ترسخ وازداد قوة في جميع المجالات وهو يراكم المزيد من عناصر القوة ونجح في إفشال مناورات الخصوم بعد الهزائم الكبرى اللاحقة بهم في سائر الساحات.
ينشغل الإعلام العربي بشن حملات مكثفة يديرها الأميركيون بينما تتحدث أهم مراكز التخطيط الأميركية عن استراتيجية مشوشة للولايات المتحدة في المنطقة رغم تحايلها على مبدأ الاعتراف بالهزيمة مع الإقرار الصريح بمؤشراتها القوية بعد عشرين عاما من الحروب والغزوات الاستعمارية الصهيونية التي اعقبت هزيمة الاحتلال الصهيوني واندحاره من لبنان عام 2000.
اللافت للانتباه هو ان الاعتراضات التي أثيرت ضد قرار ترامب بالهروب من سورية داخل الولايات المتحدة تراجعت إلى خط خلفي هو التركيز على اهمية طمأنة إسرائيل والحكومات العربية المرتبطة بواشنطن إلى استمرار الدعم والحضور والالتزامات الأميركية وهذا ما مكن الرئيس الأميركي من الجزم بتصميمه على تنفيذ الانسحاب والقيام بخطوات سياسية احتوائية عبر جولتي وزير الخارجية مايك بومبيو ومستشار الأمن القومي جون بولتون في عواصم المنطقة وبلورة اقتراح مؤتمر سيعقد تحت عنوان مجابهة إيران وهي في الواقع حركة سياسية مشهدية من المشكوك في إسهامها بإحداث تغييرات جوهرية في معادلات القوة وثمة خبراء اميركيون ادلوا بوجهات نظر تشكك بجدوى مثل هذه الانشطة الدبلوماسية والإعلامية بينما يتمادى التغيير في ميزان القوى على الأرض مع إقرارهم بصعوبة منع التحول المتراكم بل وبصعوبة توقع استمرار التراصف خلف القيادة الأميركية في المنطقة بالقوة نفسها التي برزت سابقا.
من اهم ما صدر الأسبوع الماضي تقرير شامل عن “الوضع الجيوسياسي في الشرق الأوسط والسياسة الأميركية ” أصدره معهد بروكينغز وقد شارك فيه باحثون من المعهد ومن مراكز اميركية أخرى وقد كان جيفري فيلتمان أبرز المشاركين في هذه المجموعة ومعه مارتن انديك وآخرون وخلص التقرير الذي يقع في خمسة وثلاثين صفحة إلى الاعتراف بالتغييرات الاستراتيجية التالية :
اولا الحضور الروسي المباشر عسكريا في سورية وما يرتبه من تعاظم الدور والفاعلية الروسية الحاسمة في المنطقة.
ثانيا تفكك محور حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وانقسامه بعد الفشل وفي ظل ما تراكم من تغييرات في البيئة الاستراتيجية للمنطقة رتبت بعض النتائج التي ينبغي التوقف عند ما تثيره من تفاعلات.
ثالثا دخول روسيا وإيران المتحالفين كقوة صانعة للتوازنات الجديدة ونجاحهما في توظيف تناقضات المعسكر الإقليمي الذي كانت الولايات المتحدة مرجعيته الوحيدة طيلة العقود الماضية وهو ما يشمل بالذات كلا من قطر وتركيا المرتبطتين بشراكات اقتصادية وبمصالح سياسية مع كل من روسيا وإيران.
رابعا المأزق الاسرائيلي الناتج عن تبدل موازين القوى العسكرية وعدم قدرة إسرائيل والولايات المتحدة على التورط في مغامرة عسكرية كبرى لأسباب اقتصادية وبعد تحولات نافرة في الرأي العام داخل الولايات المتحدة وقوة الرفض الشعبي لنهج الحروب المتنقلة والمكلفة.
خامسا موت مشاريع التسوية المتصلة بالصراع العربي الصهيوني وبالمسار الفلسطيني خصوصا وتصاعد التمرد الفلسطيني في الضفة الغربية المحتلة وصمود قطاع غزة رغم الحصار وتحول إسرائيل إلى سياسة الاحتواء بدلا من المبادرة وعدم القدرة على تعديل الاتجاه.
سادسا الحضور الصيني المتزايد اقتصاديا في المنطقة والشراكات الصينية النامية والاخذة بالتوسع حتى مع بعض حلفاء الولايات المتحدة كالسعودية وهذا التراكم البعيد عن الصخب يتزايد اتساعا بصورة راسخة وبالتالي ستولد الدينامية الصينية معطيات جديدة ولا تستبعد نشوء حضور سياسي وعسكري لاحق للصين.
سابعا انعكاس اكتشافات النفط الصخري في الولايات المتحدة على درجة اهتمام النخب الأميركية بالمنطقة وتراجع فكرة اعتبارها اولوية استراتيجة حاسمة بفعل مخزوناتها الضخمة من النفط والغاز.