الهزيمة الكونية الأميركية في سورية
غالب قنديل
في تقارير مراكز الدراسات الأميركية بما فيها الأقرب إلى المؤسسة الحاكمة التي تقاوم سياسة ونهج دونالد ترامب ما يشير إلى ملامح اعتراف واضح بمرارة هزيمة الإمبراطورية الأميركية في الشرق الكبير منذ انطلاق الغزوة الاستعمارية لإخضاع العالم مع مطلع القرن الجديد وحيث يعتبر الهروب المستعجل من سورية إشارة صارخة.
محور الاعترافات الأميركية المواربة بالهزيمة ثلاثة عناوين :
اولا قرار ترامب بالهروب من سورية بعد ثمانية عشر عاما شهدت سلسلة حروب فاشلة اميركية صهيونية استنزفت فيها أقصى طاقة الحكومات التابعة المالية والعسكرية في مغامرات امتدت من العراق وأفغانستان إلى فلسطين ولبنان وليبيا واليمن وقد حفز قرار الرئيس ترامب استرجاع الخبراء لتصريحات باراك اوباما الخائبة عن الرئيس المقاوم بشار الأسد الذي يعترفون بأن صموده وعناده وما يحظى به من قوة وقدرة بفضل ولاء ومساندة الشعب والجيش في بلاده سمح له بان يقيم شبكة من التحالفات التي عززت قدرة سورية على مقاومة عدوان بربري قادته الولايات المتحدة وحكومات الناتو والكيان الصهيوني وعدة حكومات عميلة في المنطقة وواجهته سورية بقيادة الرئيس بشار الأسد منفردة إلى ان نضج قرار حلفائها إيران وروسيا وحزب الله بالانخراط في المعارك واستغرق الأمر فترة راوحت بين سنتين إلى ثلاث سنوات كما شرح الرئيس فلادمير بوتين كان الأسد خلالها يصمد وحيدا وسط الخطر مع شعبه وجيشه دفاعا عن بلاده واهله.
قرار ترامب اتخذ مساحة من النقاش الأميركي ظهر من خلالها حجم الانقسام السياسي والحزبي الهيكلي في الولايات المتحدة ولكن المجادلين اجمعوا على اعتبار القرار تتمة طبيعية لمغامرة فاشلة في سورية وفي الشرق العربي بل في الشرق الكبير الأوسع وصولا إلى أفغانستان واوردت مؤسسة راند عبرة التزامن بين قرار الانسحاب من سورية إلى جانب انطلاق التفاوض مع حركة طالبان الأفغانية لتستجمع معالم مأزق استراتيجي يتهدد مكانة اميركا العظمى في العالم.
انصب نقاش المعترضين على الشكل وليس على جوهر القرار الأميركي بالهروب من سورية تحاشيا لكارثة كبرى قادمة لا محالة إذا مكثت قوات الاحتلال طويلا فقد جادل المعترضون في إخراج القرار وانتقدوا عدم استباقه بمشاورات وترتيبات مع القوى الكردية المتعاونة مع الاحتلال في الشرق السوري لكن جميع الاعتراضات لم ترق إلى أي حجة جدية وواقعية تحفزعلى البقاء في سورية وبينما يدعي ترامب انه قادر على البقاء في العراق والتدخل من القاعدة الأميركية هناك بإرسال قوات إلى سورية يرى العديد من الخبراء ان هذا الرهان مشكوك فيه حكما بالنظر إلى دعوات سياسية عراقية معلنة لطرد القوات الأميركية وهو ما يمكن ان يتجلى لاحقا بتعبيرات سياسية مباشرة وربما بخطوات قتالية ميدانية في حالة تصاعد التوتر مع إيران كما يستنتجون.
ثانيا استمرار الصعود السريع للقوة الاقتصادية الصينية العظمى والعجز الأميركي عن لجمها مقابل نجاح الصين في بناء شبكة واسعة من الشراكات التجارية والصناعية والتكنولوجية بعيدا عن منهجية الإخضاع والهيمنة الأميركية في جميع القارات ونجاح بكين في تقديم نموذج خاص يحترم استقلال الآخرين وخصوصياتهم الوطنية واعتباراتهم السيادية والتنموية الخاصة وابتكارها لمشاريع شراكات مستحدثة مبنية على مفهوم المنفعة المتبادلة بعيدا عن الهيمنة والعدوانية الأميركية المتوحشة.
وتخوض الإمبراطورية الأميركية معركة ضارية ويائسة ضد التمدد الصيني في آسيا وأفريقيا بل وفي اميركا اللاتينية وداخل الولايات المتحدة نفسها كما برهنت حرب الرئيس دونالد ترامب التجارية التي فرضت عليه التفاوض مع الصين والسعي إلى تفاهمات متكافئة.
الحقيقة النافرة هي ان الرهان الأميركي في مطلع القرن الجديد على منع قيام قوة اقتصادية حديثة ومنافسة قد سقط وانتهى وثمة اليوم تكتل شرقي وعالمي يتحرك بقيادة الصين ويقدم نموذجا جديدا للعلاقات الدولية ويتصدى للهيمنة الأميركية ذات الطابع الاستعماري والمكرسة للنهب والاستيلاء على الثروات والأسواق وجميع حكومات العالم الثالث باتت قادرة على الاختيار حال امتلاكها لحرية القرار والانتقال إلى نمط الشراكات الندية الاقتصادية التي تحفظ كراماتها الوطنية وتوفر شروطا متكافئة تناسب طموحاتها التنموية وهذا ما بات اتجاها متناميا في العلاقات الدولية ويلاحظ بعض الخبراء توسع مساحات التنصل من القيود والعقوبات الأميركية بفضل نماذج الشراكات الجديدة الناشئة التي ترسيها إيران وروسيا والصين والهند بصورة خاصة.
ثالثا كانت حربا احتلال العراق وأفغانستان وفقا لتصريحات دونالد رامسفيلد وزير الحرب في إدارة دبليو بوش تظهيرا لتفوق الآلة الحربية الأميركية وكانت الغاية ترهيب القوى المناوئة والمنافسة والمتمردة على الصعيد العالمي ولجميع التمردين في العالم من رافضي الخضوع لهيمنة الإمبراطورية الأميركية وكانت هاتان الحربان الفاشلتان تجسيدا دقيقا لنبوءات الخبير الاستراتيجي الفرنسي آلان جوكس في مؤلفه الهام “أميركا المرتزقة” الذي كان اهم مافيه فضح عقيدة مجلس الأمن القومي الأميركي الذي خطط منذ الثمانينات لخوض حروب غايتها إخضاع العالم وفرض مبدأ منع قيام قوى منافسة بكل الوسائل.
كسبت الصين معركة قيام قوة عظمى منافسة اقتصاديا مع شركائها في الشرق وخصوصا روسيا وإيران ولكن روسيا الاتحادية اتخذت قبل سنوات خيارا منهجيا لبناء وتحديث قوتها الهجومية والدفاعية في مجابهة الغطرسة الأميركية التي اظهرها عرض قوة النيران والاحتلال والغزو والتكنولوجيا العسكرية في احتلال أفغانستان والعراق وقد وجدت روسيا في صمود سورية خلال السنوات الأولى للحرب العدوانية الأميركية بواسطة عصابات الإرهاب فرصة سانحة نادرة لتظهير قدراتها الكونية المتفوقة والحاسمة في جميع أسلحة البر والبحر والجو وتلهث اليوم صناعات عسكرية اميركية خلف روسيا في سباق التكنولوجيا والفاعلية مقارنة بالترسانة الروسية المتطورة التي كسبت السباق من سورية وبفضلها وبالشراكة مع إيران وحزب الله اللبناني المقاوم.
هذا امر خطير يقلق المخططين الأميركيين وهويفسر حرن ترامب ورفضه حتى الآن قبول المقترح الروسي بتجديد معاهدة الحد من السباق النووي وهو ما استدعى تحذيرا صارما من الرئيس فلاديمير بوتين وهكذا فإن قرار ترامب الهروب من سورية يجسد الأبعاد الثلاثة لهزيمة واشنطن خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار ان الرئيس بشار الأسد يخطط مع حلفائه الكبار روسيا والصين وإيران ومعهم الهند لتكون عملية إعادة بناء سورية بعد الحرب نموذجا شرقيا وعالميا متميزا في كيفية الشراكة والتعاون بناء على خيارات استقلالية تحررية لإقامة شراكات منتجة حرة ومتكافئة ولمصلحة الشعوب وهذا سر سخرية القائد بشار الأسد من المسؤولين الأميركيين الذي قالوا إنهم ومعهم الحكومات التابعة لهيمنتهم يضعون شروطا سياسية للمشاركة في “إعمار سورية ” وكان جواب الزعيم العربي السوري مقتضبا وبسيطا : لستم مدعوين.