مشهد العام 2019: رهانات متراجعة وتحوّلات بازغة: د. عصام نعمان
في السياسة يمكن التوقع وليس التنبؤ. ذلك ان الواقعات تتغيّر وتتطوّر باستمرار على نحوٍ يتعذر معه التنبؤ بنتائج موثوقة بينما في التوقع تبدو التقديرات أكثر واقعية وأكثر قابلية للتحقق. في ضوء هذه المقاربة، كيف يمكن أن نتوقع مشهد عالم العرب عشيةَ إطلالة العام 2019؟
ثمة رهانات سياسية وأمنية نشأت خلال السنوات الماضية وستمتدّ بحركتها ومفاعيلها في العام الجديد. كما بزغت تحوّلات في الماضي القريب سيحتدم بعضها في العام الجديد وقد يتكامل فيه. هذه الرهانات والتحوّلات يتولاها لاعبون نافذون، دوليّون وإقليميون. ومن خلال حركة هؤلاء جميعاً وتفاعلهم يمكن توقع الاحتمالات والظاهرات الآتية:
أولاً: تراجع رهانات الولايات المتحدة وحلفائها
كانت الولايات المتحدة وما زالت اقوى اللاعبين في ملاعب عالم العرب. رهاناتها، بالاشتراك مع حلفائها الاقليميين، شملت دولاً عدّة. لعل أخطرها تقسيم سورية الى مجموعة كيانات قائمة على اساس طائفي او اثني او قبلي. لهذه الغاية استغلت اميركا اندلاع اضطرابات ما يسمى «الربيع العربي» وحوّلتها، بالتعاون مع تنظيمات إرهابية شتى أبرزها «داعش» و«النصرة»، الى حربٍ ضروس في سورية وعليها وكذلك في العراق، ونسّقت في هذا المجال مع كلٍّ من «اسرائيل» وتركيا. بعد نحو سبع سنوات من إطلاق هذا الرهان، يمكن القول إنه تراجع بل هو في طريقه الى الانحسار. الدليل؟ إعلان دونالد ترامب أخيراً اعتزامه سحب القوات الاميركية من سورية. صحيح أنه لم يحدد وقتاً ولا برنامجاً لسحبها، لكن يبدو انه اعطى نفسه هامشاً من حرية العمل للتنسيق مع اللاعبين الرئيسيين، روسيا و«اسرائيل» وتركيا، من اجل تقليص الأضرار الناجمة عن الانسحاب والحؤول دون افادة خصوم أميركا وحلفائها، ولا سيما سورية وإيران، من تداعياته السياسية والأمنية.
ثانياً: تعاظم دور روسيا في غرب آسيا
لم يكن لروسيا دور مؤثر في دول غرب آسيا قبل العام 2015. لكن، بعد تدخلها العسكري المباشر في خريف العام المذكور الى جانب سورية في حربها الدفاعية ضد التنظيمات الإرهابية والدول الثمانين المساندة لها، أصبح لروسيا دور مؤثر ومتنامٍ في المنطقة المذكورة الممتدة من شواطئ البحر المتوسط غرباً الى شواطئ بحر قزوين شرقاً. بتدخلها العسكري المباشر، المقرون بدعم سياسي ومالي وعسكري من إيران، مكّنت سورية من صدّ التنظيمات الإرهابية وإجلائها عن ثلثي جغرافية البلاد. الأهم من ذلك، أفلحت روسيا في خفض دعم تركيا للتنظيمات الإرهابية، كما نجحت بتعاونها مع إيران في دفع تركيا الى اعتماد الوسائل السياسية والدبلوماسية لإطفاء الحرب في سورية وعليها ومعالجة المشاكل الناجمة عنها في مؤتمر أستانة ما أدّى الى تطويق التدخلات الاميركية. الى ذلك، قامت روسيا بإعادة تسليح سورية ومدّها بمنظومة للدفاع الجوي 300-S مستفيدةً من أخطاء جسيمة ارتكبتها كلٌ من تركيا و«اسرائيل» لدى تدخلهما السافر، كلٌّ من زاويته ولمصلحته، في الحرب لتفكيك وحدة سورية وبعثرة شعبها. الى ذلك، استفادت روسيا من اخطاء «اسرائيل» وخطاياها بحق الفلسطينيين عموماً ومن تأييد أميركا الاعمى لها، لزيادة دعمها السياسي لهم ولاجتذاب حركتي «حماس» والجهاد الإسلامي اليها وإطلاق الدعوة، تالياً، الى عقد مؤتمر فلسطيني موسّع في موسكو لمعالجة القضية الفلسطينية في جانبها الداخلي حال الانقسام بين غزة والضفة وجانبها الخارجي حال الصدام مع «اسرائيل» واميركا . باختصار، اصبحت روسيا اللاعب الدولي الاول والأكثر نشاطاً وتأثيراً في غرب آسيا، ولا سيما بعدما أخرج ترامب اميركا من الاتفاق النووي مع إيران.
ثالثاً: ابتعاد تركيا المتدرج عن أميركا وتطلعها شرقاً
تركيا عضو قديم في حلف شمال الاطلسي الناتو . بعد وصول رجب طيب اردوغان الى السلطة، اخذت انقرة تتطلع في طموحاتها ومصالحها ونشاطها شرقاً. هذا التوجّه الاستراتيجي قادها الى التعامل مع اميركا واوروبا وفق متطلباته الجيوسياسية والاقتصادية. حاول اردوغان، بادئ الامر، اعتماد الخيار الإسلامي الاخوان المسلمين للسيطرة على سورية بدعم التنظيمات الإرهابية الإسلاموية التكفيرية. غير ان قيام الولايات المتحدة، بتحريضٍ من «اسرائيل»، بدعم الفصائل الكردية السورية الساعية الى إقامة كيان حكم ذاتي في شمال شرق سورية، ارعب أردوغان وحمله على تعديل سياسته بشكلٍ قرّبه من روسيا وإيران ومكّنه من وقف الدعم للتنظيمات الإرهابية المقاتلة في سورية والشروع في محاورة روسيا وإيران بغية التوصل الى تسوية سياسية للأزمة السورية تخدم، بالدرجة الاولى، الامن القومي التركي. بكلمة، تركيا أنشط لاعب حاليّاً في الإقليم بعد روسيا واميركا.
رابعاً: سقوط رهان «إسرائيل» على تقسيم محيطها الجغرافي وتزايد مخاوفها الأمنية
رهان «اسرائيل» الرئيس كان على تقسيم سورية والعراق. هذا الرهان سقط مع نجاح سورية وحلفائها في صّد التنظيمات الإرهابية المدعومة من اميركا وتركيا وبعض دول الخليج وإجلائها عن ثلثي جغرافيتها. الى ذلك، تزايدت مخاوف «اسرائيل» الأمنية بعد تدخل روسيا بفعالية لنصرة سورية ميدانياً وإعادة تسليحها لاسيما بمنظومات الدفاع الجوي وقيام إيران بتسليح فصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية ما حوّل أحدها، حزب الله، قوةً إقليمية بقدرات صاروخية متطورة وبعيدة المدى. ذلك كله، بالإضافة الى اعتزام اميركا سحب قواتها من سورية وربما اضطرارها الى سحبها من العراق لاحقاً ضيّق هامش المناورة امام «إسرائيل» وأضعف دورها الاقليمي ولا سيما رهانها على تطبيع العلاقات مع دول الخليج.
خامساً: تنامي قدرات أطراف محور المقاومة ودورهم الإقليمي
من مجمل التطورات سالفة الذكر يمكن الإستنتاج بأن أطراف محور المقاومة، سورية وإيران وفصائل المقاومة اللبنانية والفلسطينية، ستكون أبرز المستفيدين من تراجع وانتكاس رهانات القوى المعادية لأطراف المحور المذكور ما يتيح لهم إمكانية توليف تحوّلات واعدة في المشهد الإقليمي على حساب خصومهم الدوليين والإقليميين. ولعل أبرز التحديات التي تواجه هذه التحولات البازغة ثلاثة: إخراج أميركا نهائياً من سورية والعراق، وإخراج تركيا من «الناتو» او في الاقل تحييدها فلا تبقى شوكة في خاصرة سورية والعراق، واستعادة وحدة سورية وسيادتها مقرونةً بالضرورة بتسويةٍ ديمقراطية للمسألة الكردية في كِلا البلدين.
في ضوء ما تقدّم بيانه يمكن الاستنتاج بأن المشهد الإقليمي ما زال مضطرباً، لكن الخط البياني لقوى المقاومة العربية عموماً يتصاعد بإطراد، وأن هامش العمل والمناورة أمام أعدائها يضيق باستمرار. في المقابل، يتعمّق الاقتناع لدى قيادات المقاومة بضرورة توسيع دائرة الاشتباك مع قوى الهيمنة الخارجية بمختلف اوصافها وأدوارها، ولاسيما الولايات المتحدة والكيان الصهيوني.
(البناء)