تداعيات “أسلمة الحداثة” نسيم الخوري
تتحوّل الفكرة إلى كتاب بعد سنوات من التأليف. ويتحوّل كتاب إلى مقال بهدف نشر المعرفة وتسهيلها، لكن أن يراكم مقال بعد يومين من نشره مادة كتابٍ جاهز للتحرير والإصدار أمر لافت في عصر كساد الكتابة والكتّاب. الأصعب من هذا كلّه أن تنسج من هذا التراكم للتعليقات المتناقضة أمامك مقالاً جديداً وعبراً.
لماذا ؟
لأنّها تجربة حصلت بعدما نشرت صحيفة الخليج مقالي بعنوان: “ماريان الفرنسيّة”: لا لأسلمة الحداثة” (22/12/2018)، نقلته العديد من الصحف والمواقع كاملاً في واشنطن ولندن وباريس وبيروت والقاهرة وعمان وفلسطين وغيرها، وإجتزأته بعض الإذاعات، ليأخذ في وسائل التواصل حيّزاً من الإهتمام والتعليقات الإيجابية والسلبية التي شغلتني والتي فائدة ربّما من توضيبها ونشرها في كتاب.
ولهذا مؤشّرات:
1- المهم ألاّ تنقر! بل أنقر بريشتك وبإحترام باب المحرّمات الثابتة والمدفونة الحيّة فتتحرّك السبابات مثل البرق فتسبق الكتابة القراءة وتتفجّر وحولها فتظهر السلوك التائه بين الأفعال وردود الأفعال لتذيّل نصّك بأن معظم العرب صاروا يكتبون ويعشقون ردود الأفعال بعد وقوع الكوارث. وهذا أمر إيجابي بجمع الأجيال والأمزجة نحو نقاوة الكتابة المتواضعة.
2- أتذكّر التجربة الأولى الصاخبة على مقال/ نقرةٍ نشرتها في 2 حزيران 1979 في مجلّة المستقبل الصادرة في باريس بعنوان:” مصر وشعرة معاوية” بعد زيارة السادات المفاجئة إلى “إسرائيل” طالبت فيها بقطع الشعرة مع المصريين إن وافقوا بنسبة 99 بالمئة على نتيجة الإستفتاء الرسمي للزيارة، كما جاء منذ 40 سنة. إنّ معاوية لن يزعل لو عاد أو كان في مصر.
باض المقال كتاباً مخطوطاً ما قيمته إن تبدّلت ملامح الدنيا في شأن فلسطين!
3- تمّحي المقولة الشائعة بأنّ العرب لا يقرأون ولا يكتبون. غاب زمن كانت القراءة والكتابة فيه متعاً محصورة بالمثقفين ورجال الدين وغيرهم. وعبر سهولة الإستعمال وخارج تعقيدات المعرفة أيقظ عصر التواصل الكبت التاريخي العربي وشقّت أبواب القراءة والمتابعة والتعبير والكتابة والنقد الجارح والتصويبات لدى عامّة العرب بما يتجاوز أحياناً نصوص المثقفين والمفكرين وتعقيداتهم الفلسفية.
تتكدّس أمامنا يومياً الملاحظات وتعليقات الرأي العام العربي المتفجّر بالصوت والنبرة والنصوص الصغيرة المفككة لغوياً لكنها الصادقة البسيطة والمباشرة المتنوّعة الحاملة لمضامين دسمة جاذبة تخلط التفكير الهاديء بالعفوية والسليقة وتدمج العقل بالغرائز وتقرن التهذيب بالشتائم والسباب والتحقير. أنت أمام ظاهرة بشرية لطالما وشوشت بصمت مكتبات شعبية كاملة دفنت في الصدور وهي تمرّ عند الفجر في الساحات أمام تماثيل الزعماء. تبدو وكأنّها أبواب السجون والحرية فتحت لتتدفّق سيولاً لا يجوز إهمالها. هو الواقع ينادينا غناه نحو صناعة الوعي والرقي والثقافات لا لدى العامّة وحسب بل لدى الحكام والمسؤولين في العالم.
4- ل”الربيع العربي” وتداعياته فضل واضح في تفجير التعبيرات الشعبية فوق جدران الكتابة ولفت شعوب العالم بمختلف اللغات إلى مأسي فلسطين والعرب والمسلمين وأسواق التجارب المرّة والمستمرّة التي يصعب محوها وحرمان شعوبها من تدفقات قناعاتهم ولاوعيهم وتاريخهم الأخرس.
5- يقرأون ويكتبون بنهم لكن بتسرّع ملحوظ، ومن دون أناة وتدقيق والغرابة أنّ لا فرق واضحاً بين المتعلّمين والعاديين، وفق التعليقات الواردة، لأنّ نص المقال المنشور في “الخليج”، كان لسيدة فرنسية نقل إلى العربيّة بين قوسين أنموذجاً لنبذ بعض الفرنسيين وكراهيتهم للمسلمين المهاجرين الحاقدين على فرنسا والغرب.
6- نسيت ان أضيف أمراً مهمّاً بأن الملاحظات الخليجية طالبت بالنقد الذي “يجب أن يطال كل شيء حتّى السلوك الديني الذي لا يعلق عليه شيء من قيم الدين” كما كتب مسؤول سعودي كبير مضيفاً :
” أتعاطف مع كاتبة المقال الفرنسيّة، واتعاطف مع الاكثرية المتواجدة في تلك البلدان الذين لا يحملون الكراهية للاخرين ولا لثقافتهم ولا لحضارتهم ويدفعون ثمن ممارسات الاقلية من الجهلة ومرضي النفوس حتى اصبحت الحلول لمستعصية. خوفي ان يحصل للعرب المسلمين منهم خاصة اذا لم يقبلوا بالتعايش مع المحيط الذي يعيشون فيه ويسهموا في تطوره الحضاري، ان يحصل لهم ما حصل لليهود ذات يوم علي ايدي النازية التي بدات تطل براسها من جديد إمّا بالقتل الجماعي او الترحيل الجماعي وكويس أن للعرب اوطان اصلية يرجعون اليها. احب ان اقول ألّا نستمر في تحميل الغرب كل مشاكلنا فننصرف عن التفكير في الحلول“.
بالمقابل كتب مسلم من باريس:
“إن عدد المسلمين في فرنسا يصل الى سبع ملايين لا يعترف لهم بأي خصوصية ثقافية ومع ذلك يدرسون في المدارس الفرنسية بشروطها المجحفة ويؤدّون الضرائب كاملة وهم أكثر المروجين للإقتصاد الفرنسي بإستهلاكهم الكبير؛ بينما اليهود أقلية ومع ذلك يعترف بخصوصيتهم الثقافية ولهم مدارسهم الخاصة بل ولهم محاكمهم الخاصة ويطبقون قانون أحوالهم الشخصية ،، لهذا فإن هذا الكلام لا ينطلي على أحد .
وأزيدك، قبل عشر سنوات كانت إسبانيا الجارة تعيش أزمة خانقة وكان الإعلام يسوق على أن سبب الأزمة هو تواجد المهاجرين المسلمين وفعلا طرد المسلمون من أعمالهم ووظائفهم وعاد أغلبهم الى بلدانهم ولكن الأزمة استمرت بل تفاقمت؛ وعليه عرف الإسبان أن سبب أزمتهم لا علاقة للمهاجرين بها بل لنظام رأسمالي متوحش عابر للحدود تحتكر الثروة فيه أقلية صغيرة ؛ ولعل هذه الفرنسية( التي نقلت نصّها) من هذه الأقلية وهي تريد تشتيت إنتباه الفرنسيين المطالبين بحقوقهم أصحاب السترات الصفراء الى هذه الأسطوانة المشروخة المسلمون.”
والنتيجة؟؟؟؟
“أسلمة الحداثة” مخطوطة أضعها على الرف إلى جانب “مصر وشعرة معاوية” شهادتان تفصلهما 40 سنة.