بقلم ناصر قنديل

المقاومة الأقلّ تأثراً بالحسابات الإقليمية فلا تتعبوا بالتحليل: ناصر قنديل

بالرغم من الإجماع عند كلّ عاقل على استحالة الفصل بين ما هو محلي وما هو إقليمي ودولي في بلد كلبنان يقع في قلب الحسابات الكبرى للاعبين الكبار، لمجرد أنّ فيه مقاومة قوية تتسبّب بالقلق والأرق لقادة كيان الاحتلال الذي يقع أمنه في منزلة الأولوية لجبهة تقودها واشنطن، ولها حلفاؤها وأتباعها في داخل لبنان وخارجه، فإنّ الجميع في لبنان يحاول الإيحاء وأحياناً الادّعاء بأنّ حساباته محض محلية ونابعة من قراءاته الخاصة لمصلحة لبنان غالباً ولمصلحته كفريق أحياناً، وعندما يشير بإيماءة من رأسه إلى حضور العامل الإقليمي يقصد بالتمليح وأحياناً كثيرة بالتصريح، أن يقول، إنّ المقاومة وحزبها الأكبر حزب الله وحليفته حركة أمل يتقاسمان أدواراً بحسابات لها صلة بالوضع الإقليمي، ويكون المقصود ضمناً حسابات إيرانية .

التدقيق بتاريخ لبنان منذ ظهور المقاومة وتحوّلها لاعباً رئيسياً لا يمكن تجاهله، وخصوصاً منذ العام 1996 وولادة تفاهم نيسان بعد مفاوضات أميركية فرنسية مع سورية، وبشراكة كاملة من المقاومة، يقول إنه بالقدر ذاته الذي برزت فيه الاتهامات المعلنة والمبطنة للمقاومة وقواها بربط الوضع الداخلي بالحسابات الإقليمية، وتزايدت نبرة هذه الاتهامات من الغمز واللمز والتلميح إلى التصريح، ثبت أنّ كلّ ما قيل عن هذا الربط محض هذيان أو تشويه متعمّد، أو وهم باطل، ففي التسعينيات من القرن الماضي كان كلّ الكلام عن اتهام المقاومة بهذا الربط يدور حول تخديم المقاومة لمشروع التفاوض السوري مع «إسرائيل» وتعزيز وضعها التفاوضي. وفي ختام المرحلة عام 2000 تحرّرت أرض لبنان المحتلة وانفرط عقد التفاوض السوري ـ «الإسرائيلي». وفي مرحلة العقد الأول من القرن الحالي جرى ربط أداء المقاومة بالملف النووي الإيراني، حتى حرب تموز 2006 قال البعض إنها من ضمن استحقاقات التفاوض حول الملف النووي، وانتصرت المقاومة ولم يتغيّر شيء في ملف إيران، وعندما انتهى التفاوض إلى اتفاق من دون مقدّمات لبنانية لم يتوقف الاتهام بالربط، بل بدأ الحديث عكسياً عن فاتورة ستدفعها إيران من حساب المقاومة، وعندما انسحبت واشنطن من التفاهم النووي عاد الاتهام من بوابة جديدة عنوانها حماية الخاصرة الإيرانية الضعيفة بوجه العقوبات، وقبلها مع بدء الحرب على سورية كان الاتهام بالربط تخديماً لموقع سورية ورئيسها، وعندما ظهر الانتصار السوري جلياً عاد الكلام عن الربط من بوابة القول إنّ المقاومة تريد انتظار آخر الانتصارات لتصرفها في الداخل اللبناني.

لم تغيّر المقاومة مرّة في سقوفها السياسية المحلية على إيقاع انتصاراتها أو انتصارات حلفائها، في المعارك الإقليمية، رغم كثرة الاتهامات لها بذلك، وبقي سقف تطلعاتها متواضعاً وموضع انتقاد من حلفائها المحليين، ومنهم التيار الوطني الحر في فترة ما قبل وصول العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وكانت المطالبة جامعة للمقاومة بضرورة رفع السقوف الداخلية بالتوازي مع الانتصارات الإقليمية، واليوم ينضمّ التيار أو بعض نوابه وكتابه إلى المتسائلين عما إذا كان لدى المقاومة حسابات إقليمية وراء مواقفها الداخلية، بينما يوصل كلّ تدقيق ببساطة إلى نتيجة مفادها أنّ سقف طلب المقاومة أقلّ من حجم نواب التحالف الذي يُعرَف بقوى الثامن من آذار، وقد حصل على خمسة وأربعين نائباً وينال حصة تعادل حصة التيار الوطني الحر الممثل بـ29 نائباً والذي ينال مثل قوى 8 آذار 7 وزراء، بينما ينال تجمع قوى 14 آذار مقابل 44 نائباً 12 وزيراً، والمقاومة هي المتهم بطلب المستحيل. والطرفان المتقابلان أيّ التيار الوطني الحر وفريق رئيس الجمهورية من جهة، وقوى 14 آذار وفريق رئيس الحكومة من جهة مقابلة ينعمان بالثلث المعطل في الحكومة، ويتمسّكان به، والمقاومة وحلفاؤها متهمون بالطمع ونية التعطيل.

الآخرون في لبنان يقيمون حسابات للوضع الإقليمي أكثر مما تقيم المقاومة وحلفاؤها. فالتيار الوطني الحر وفريق رئيس الجمهورية اللذان يمثلان قوة وطنية لا يمكن اتهامها بالتموضع في محور إقليمي، يقيمون حسابات من نوع عدم إزعاج الرياض وواشنطن بمواقف تتصل بالعلاقة بسورية وإيران على سبيل المثال، وزيارة دمشق وطهران، أما فريق الرابع عشر من آذار فحدّث ولا حرج، عن انتظار تعليمات وأضواء خضراء، ومنها ما يجري تداوله أخيراً، مع تصاعد احتمالات عودة سورية إلى الجامعة العربية قبل القمة الاقتصادية في بيروت، عن وجود قرار عند رئيس الحكومة بعدم تشكيل الحكومة قبل قمة بيروت الاقتصادية، متخذ في الرياض كي تبقى ورقة المصالحة مع سورية في الجيب السعودي، بينما المقاومة لا تجد نفسها معنية بمراعاة أيّ حسابات إقليمية من حساب لبنان واللبنانيين، ولا صرف انتصاراتها وانتصارات حلفها الإقليمي في تغيير مطالبها الداخلية.

الأكيد أن لا مشكلة لدى المقاومة بنيل رئيس الجمهورية وفريقه الثلث المعطل في الحكومة، والأكيد في المقابل أنّ أصل طلب المقاومة لتمثيل حلفائها كان من خارج حصة رئيس الجمهورية، وأنّ أصل الإشكال المرتبط بهذا التمثيل نشأ عن محاولة التيار الوطني الحر للتوفيق بين تقديم المقعد من حصة الرئيس والحفاظ على الثلث المعطل، وكيفية إخراج الأمرين معاً، والأكيد أيضاً أنّ أصل الخلل في كلّ التفاوض حول الحكومة هو في المراعاة المبالغ بها من الفريقين، المقاومة وحلفاؤها من جهة والتيار الوطني الحر ورئيس الجمهورية من جهة مقابلة، لدلع رئيس الحكومة وطلباته وممنوعاته، والتوهّم بأنه يشعر بالعرفان لموقفيهما خلال محنته مع السعودية، واعتباره مغلوباً على أمره في المواقف التي يبديها، بينما تظهر الوقائع أنّ رئيس الحكومة وحلفاءه قد نجحوا مرتين، مرة بالحصول على تمثيل وزاري يعادل تقريباً ضعف حجمهم بالمقارنة مع ما ناله فريق المقاومة وحلفاؤها، وبالتالي ضمان الثلث المعطل دون أن يذكر أحد ذلك، ويصير التركيز على نيل رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر هذا الثلث، كأنه من المثالب والنقائص، ومرة ثانية أن رئيس الحكومة وفريقه يتفرّجون اليوم على ما نجحوا بتحقيقه من تأزّم في العلاقات بين كلّ من الحليفين في التيار الوطني الحر وفريق الرئيس من جهة، والمقاومة وحلفاؤها من جهة مقابلة.

– أول التحرّر من التأثيرات الإقليمية على الداخل اللبناني يتمثل باسترداد الثقة بين فريقين هما الأقلّ تأثراً بالمعادلات الإقليمية، واحد لأنه ليس طرفاً فيها ولو كان يراعيها، والثاني يستخدمها لحساب لبنان وليس لحسابه في لبنان، ولا يقوم بتخديمها، وهما الحليفان اللذان صنعا معادلة جديدة مع تفاهم السادس من شباط وعليهما مسؤولية صيانته، بدلاً من تبرّع البعض لوضعه في التداول والتساؤل عن مدى صموده. القليل من العقل البارد بدلاً من الرؤوس الحامية مطلوب في هذه الأيام، والقليل من الآذان الصماء للنميمة، والآذان المصغية للحوار ربما يسكب الماء البارد على الرؤوس الحامية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى