الخيار الاقتصادي البديل
غالب قنديل
تحت قرع طبول التهويل بانهيار وشيك، تمّ جرف جميع القوى السياسية إلى منصة انصياع لصيغة الاقتراض من الغرب، وتجدد ارتهان لبنان لهيمنة غربية خليجية، بذريعة انه لا خيار بديلا سوى احتواء أعباء القروض المتضخمة، بمزيد من الاقتراض، وبالانصياع لشروط الجهات المانحة. وهي حكومات غربية، تنتمي إلى معسكر الهيمنة العالمي، بقيادة الولايات المتحدة وصناديق ومجمعات مالية، تعمل من خلال اندية باريس، التي تجمع الدول الغربية الدائنة بالدول المدينة. ودفاتر الشروط، وضعها خبراء صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، المكرّسة لتدمير مرتكزات الاستقلال السياسي والاقتصادي لدول العالم الثالث، من خلال استعمال الحاجة إلى القروض، كأداة للتطويع السياسي، عبر شروط صارمة، لتكييف البنى الاجتماعية الاقتصادية للدول النامية، وإلحاقها بالهيمنة الغربية .
طبعا، لم يراجع أحد في لبنان، وفق المنطق العلمي، ملف الديون السابقة، ووجهة إنفاقها. ناهيك عن التدقيق في وقائع تقاسم واكبتها داخليا وخارجيا، وعمليات هدر ونهب شرسة، استبطنت جميع المشاريع والوعود المنسوبة إلى سلة الاستدانة، التي تراكمت فيها فوائد باهظة، وكانت أحيانا ربوية وغير معقولة بأي معيار مالي او اقتصادي. فالبلد مرتهن للخارج وخاضع لهيمنته، ونظامنا الريعي اعتاشت نخبته المترفة على فوارق أسعار الفائدة والتلاعب بسندات الخزينة. فالديون الداخلية وفوائدها المتضخمة تتراكم بالليرة. بينما قروض الخارج، المكرسة لسداد فوائد الدين، هي بالدولار او باليورو، وحاكمية المصرف تدير التوازن الدقيق على حافة الهاوية. بينما تتزايد أرباح المصارف، ويحتبس جناحها، التوأم في القطاع العقاري، ضمن حالة من الجمود والشلل.
هذا النهج الريعي دمّر قطاعات الإنتاج، التي نزعت عنها جميع الحمايات، ونسفت قواعد ارتكازها، فلم يُتعِب أحد رأسه بالتفكير او البحث، في سبل التخطيط لتنمية صناعة او زراعة وطنية، ترعاها الدولة بحجة نهج اليد المرفوعة، وترك الأمر للسوق وقوانينها. علما أن أكثر الدول الغربية ثرثرة عن الاقتصاد الحر، ما تزال تدعم منتجاتها الزراعية والصناعية الوطنية وتحميها من المنافسة، وتقدم لها الحوافز بالإعفاءات الضريبية وبالحماية الجمركية. وهذا ما يجري في الولايات المتحدة وجميع دول الاتحاد الأوروبي، التي تلتزم نهجا متشددا في هذا المجال، وهي تجنّد سياستها وعلاقاتها الخارجية لترويج منتجاتها الوطنية.
أما عندنا ومنذ الطائف، فقد امتنعت جميع الحكومات المتعاقبة عن أي عمل جاد في هذا المجال، باستثناء مبادرات يتيمة قام بها بعض الوزراء الجديين.
الواقع الكارثي يحاصر الصناعة والزراعة، بسبب عدم قيام الحكومات بواجباتها اتجاههما، ونتيجة تحكم النمط الريعي والربوي في النهج الاقتصادي للدولة الغارقة في الديون، والخاضعة للوصاية الأجنبية اقتصاديا وسياسيا. فهل هناك من خيار واقعي، لتصحيح هيكلي متدرّج، بدلا من ثورة جذرية مُتَخَيَّلة، لا تتوافر قواها حتى اليوم، في المجتمع اللبناني المرتهن إلى عصبيات الانقسام المتجدد، رغم الصراخ والضجيج؟.
أولا: إن بداية التصحيح الهيكلي، هي سياسة اقتصادية جديدة، لتنمية الصناعة والزراعة، وحماية مواردهما من التدمير المنهجي، الموروث عن توحّش النظام وفلتان التصرف بالموارد المائية والأراضي الزراعية، والفشل المريع في بناء شبكة مستقرة وكافية، لكهربة جميع المناطق الحضرية والريفية، وبالطاقة اللازمة للتنمية الاقتصادية، التي ترتبط باستراتيجيات الإنتاج والتوزيع المنتظم والآمن للكهرباء في جميع بلدان العالم.
ثانيا: خارجيا، يحتاج تصحيح الاتجاه إلى اعتماد التوازن في علاقات لبنان الاقتصادية، وإخراج البلد من الوصاية الأميركية، التي تحظر عليه أي تطوير لعلاقاته مع سورية، الجارة الأقرب، ومع العراق الشريك التجاري والسياحي الاول تاريخيا وكل من إيران وروسيا والصين والهند، وغيرها من دول منظمة شانغهاي، التي تتميز ببنى اقتصادية هائلة وصاعدة، تنطوي العلاقات بها على فرص واعدة للاقتصاد اللبناني.
ثالثا: ليس مطلوبا من الفريق الوطني في الحكومة خوض معركة لقطع صلات لبنان الاقتصادية والمصرفية بالغرب والخليج، بل إقامة توازن هيكلي في العلاقات الخارجية، من خلال شراكات اقتصادية حيوية مع دول الشرق، انطلاقا من سورية والعراق. فلتكن معادلة غرب شرق متكافئة في الصلات المالية والاقتصادية. أليس من المعيب أن تكون معظم الديون الأميركية من الصين، ولبنان محظور عليه مناقشة الصين في إمكانية جدولة سلة الدين والفوائد، بضمانة مشاريع اقتصادية مشتركة مع هذه الدولة العملاقة، بل ممنوع عليه ان يبلغ الصين سلة مشاريع سيدر، لبحث فرص تمويلها وإدارتها بصورة مشتركة، فأي استقلال وأي سيادة؟.
رابعا: ليس مطلوبا مطلقا تنكُّر لبنان للعلاقات الاقتصادية مع الخليج، بل من المفيد النظر في سبل تطويرها. لكنّ بالمقابل في العلاقة مع سورية والعراق وإيران مصالح حيوية في جميع المجالات، وفرص كبيرة لإنهاض قطاعات لبنانية عديدة. فماذا عن أنابيب النفط والغاز، وإعادة تشغيل مصفاتي طرابلس والزهراني بعد تحديثهما، وماذا عن الربط الكهربائي العابر للحدود، وماذا عن انضمام لبنان واستفادته من خطوط سكك الحديد، التي بوشر بربطها بين إيران والعراق وسورية، بالتعاون مع الصين؟. وهي توفر فرصا كبيرة لانتقال البضائع والركاب بسرعة بين هذه الدول، ومنها إلى أقاصي آسيا، وتخفّض تكاليف النقل والانتقال، مع استفادة لبنان من حوافز مالية صينية، متضمنة في مبادرة الحزام والطريق.
هذه عناوين تتحدى الصيغة المتحجرة لنظام الريع والتبعية. وثمة تفاصيل كثيرة، هي مضمون إصلاح اقتصادي لابد منه، لتخطي المنزلقات الكارثية وانهاء حالة لحس المبرد، الذي أدمنه من ينتظرون عمولات القروض، كتجار الأكفان في مواكب الموت.