قرار الانسحاب الأميركي من سورية تحدي ترامب لأجنحة “دولة الأمن القومي” د.منذر سليمان
يستمر الجدل حول قرار الرئيس ترامب “المفاجيء” بالانسحاب من سوريا بدءاً بأجنحة المؤسسة الحاكمة بكافة تشعباتها، الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، وليس انتهاء بحلفاء واشنطن الدوليين والاقليميين، فالرغبة لديهم لا تزال قائمة بل المراهنة على أن يعيد ترامب النظر في قراره أو دفعه لإبطاء عملية الإنسحاب .
أما الأطراف الدولية المناوئة فلا زالت تنظر للقرار بعين الريبة والشك من أن يكون ذلك مقدمة لإعادة انتشار للقوات الأميركية، والتوجه لإشعال ساحات أخرى في إطار “استراتيجية أو مرحلة جديدة،” كما جاء في توصيف المتحدثة باسم البيت الأبيض، ساره ساندرز.
للفرقاء المحليين في واشنطن تتوفر جملة عوامل ومصادر قلق “لإفلات ترامب من عقاله” دون أخذه بعين الاعتبار “مسلمات” المؤسسة كإيلاء الأولوية لمراكز الاستخبارات والمؤسسة العسكرية في اتخاذ القرارات الحاسمة؛ وهم الذين كانوا على وشك تضييق الخناق عليه في الأيام القليلة الماضية، بسلاح الملاحقة القضائية. وأدت فعلته إلى خلط الأوراق وحسمٍ مرحلي للصراع الدائر بين أجنحة المؤسسات المختلفة لصالحه ولو مؤقتاً.
آلية “تسريب” البيت الأبيض لقرار ترامب جاءت ايضاً في سياق تعزيزه موازين القوى الداخلية لصالحه الشخصي. إذ أوعز ليومية المال والأعمال وول ستريت جورنال، مطلع الاسبوع، كما يرجح، بنشر فحوى قرار الانسحاب لتتبعها مؤسسات صحافية وإعلامية كبرى في غضون ساعات قليلة، قاصداً التريث في إصدار بيان رسمي بذلك حتى تيقنه من انشغال كافة الوسائل وصناع القرار بما رمى إليه، وتراجع موجة الهجوم القضائي ضده عن الصفحات الأولى.
الحلقة المحورية في القرار تكمن في توقيته وليس في بعده السياسي فحسب. الثابت للحظة أن جدلاً واسعاً جرى بعد نهاية عطلة الأسبوع في البيت الأبيض جمع كافة المستشارين والمسؤولين الكبار، خاصة في الوزارات السيادية وأجهزة الاستخبارات، لبحث المسألة، نجم عنه تعليمات صارمة أصدرها الرئيس ترامب لإبلاغ القوى الحليفة، من دول وجماعات من بينها “اسرائيل” والاردن، بالقرار “للبدء في سحب فوري للقوات الأميركية” من سوريا، وموجهاً انتقاداته للمؤسسة العسكرية بأنه أعطاها فترة زمنية كافية منذ شهر نيسان/ابريل الماضي، بناء على إصرارها لمهلة إضافية، للتحضير لانسحاب “لكافة عناصر القوات العسكرية التي يربو تعدادها عن 2000” جلهم من القوات الخاصة.
ليس أدل على مؤشرات حجم الخلاف داخل الإدارة الأميركية من سلسلة تصريحات متتالية سعت لإبطال قرار مرتقب من البيت الأبيض، أبرزها كان بيان صادر عن “التحالف الدولي” الذي تقوده واشنطن مطلع الشهر الجاري يشير إلى أن “أي تقارير تشير إلى تغيير في موقف الولايات المتحدة فيما يتعلق” بالوجود العسكري في سوريا “باطلة ومصممة لزرع الارتباك والفوضى.”
تزامن البيان مع تصريح لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، جوزيف دانفورد، بأن بلاده تمضي قدماً “لتدريب آلاف المقاتلين المحليين لضمان هزيمة دائمة” لداعش؛ التي قدرت أعداده “ما بين 3000 إلى 8000” في سوريا؛ ليسارع مجمع النخب الثقافية بتضخيم الرقم إلى “40،000 مسلح في كل من العراق وسوريا؛” مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، 20 الشهر الجاري، وهو العدد نفسه للتنظيم حينما كان في أوج قوته ودمويته.
واضاف دانفورد أن قيادته تحتاج لتدريب “40،000 عنصر” محلي لمواجهة داعش وتوفير الأمن والاستقرار هناك.
وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، المسؤول الأول عن التمدد الأميركي، أوضح مؤخراً أنه أصدر أوامره لتوجيه القوات الأميركية في سوريا “إنشاء مراكز مراقبة على طول الحدود السورية التركية كجزء من الجهود الرامية إلى الحد من التوترات بين تركيا والحلفاء الأكراد في الحرب ضد داعش.”
مستشار الأمن القومي جون بولتون “تعهد” قبل بضعة اسابيع ببقاء القوات العسكرية الأميركية في سوريا “طالما بقيت إيران محتفظة بوجود عسكري هناك.”
أحدث تصريح جاء على لسان المبعوث الأميركي للتحالف الدولي، بريت ماكغيرك، مؤكداً أن بلاده ترمي للبقاء طويلاً في سوريا “.. القضاء على تنظيم داعش سيستغرق وقتاً أطول .. ولا أحد يمكنه القول إن المهمة قد أنجزت، بالطبع لقد تعلمنا دروسا كثيرة. لذلك، نحن نعرف أنه لا يمكننا فقط حزم الأمتعة والرحيل حالما يتم تحرير الأراضي.”
المبعوث الأميركي الخاص لسوريا، جيمس جيفري، صرح قبل ساعات قليلة من “تسريب” نية الرئيس ترامب الانسحاب من سوريا مؤكداً أن بلاده لن تخرج من سوريا إلا بعد أن تهزم نهائياً قوات داعش، وأن هدف بلاده لا يتمثل في “رحيل الأسد .. الذي ينبغي أن يقرر مصيره الشعب السوري؛ ويتعين عليه الموافقة على تسوية إذ أنه لم يحقق انتصاراً تاماً بعد سبع سنوات من الحرب.”
رد الرئيس ترامب مغرداً بجملة مقتضبة لا تتعدى 16 كلمة قائلاً “هزمنا داعش في سوريا، السبب الوحيد للتواجد” الأميركي هناك.
الانسحاب إلى أين؟
لم يشر الرئيس ترامب صراحة إلى وجهة القوات الأميركية المنسحبة من سوريا سوى بالإطار العام بأنها ستعود إلى البلاد؛ اتهمه خصومه أنه لم “يستشر أي من الشركاء الاستراتيجيين من بينهم فرنسا والاردن واسرائيل.”
مصادر عسكرية أميركية في العراق، في سياق إبلاغها حلفائها بقرار الرئيس ترامب، أوضحت لـ “مسؤول أمني عراقي” بأن القوات المنسحبة من سوريا “ستستقر في القاعدة العسكرية (الأميركية) في إربيل بشمال العراق .. وستباشر بوضع نقاط حدودية بين سوريا وإقليم كردستان العراق.” يشار أيضاً إلى أن القوات الأميركية شرعت في إنشاء “مركز عمليات عسكرية مشترك مع قوات البيشميرغة” الكردية على الحدود العراقية السورية.
فيما جاءت تصريحات “أمنية أردنية” مؤخراً لتضيء جانباً آخر من المخطط الأميركي مؤكدة أن “هناك جهدا مشتركا في المستويات السياسية والأمنية من وراء الكواليس بين الأردن وإسرائيل والسعودية، لتقليل التهديد الذي تشكله سوريا وإيران، بعد أن أعلنت الولايات المتحدة أنها ستسحب قواتها من سوريا؛ وأن واشنطن أوضحت للبلدان المعنية أن أجهزة الاستخبارات الأمريكية المتعددة ستزيد بشكل كبير من التعاون الأمني مع إسرائيل والأردن والسعودية.”
رقعة الانتشار الأميركي
تحتفظ واشنطن بتواجد عسكري لافت في سوريا أبرزه “مطار الرميلان” بمحافظة الحسكة، بالقرب من الحدود المشتركة مع كل من تركيا والعراق؛ وهي منطقة غنية بباطنها من الآبار النفطية – والتي “تسيطر” عليها قوات سوريا الديموقراطية – قسد.
كما لواشنطن خمسة مواقع عسكرية أخرى في تلك المنطقة ما بين نهري دجلة والفرات: قاعدة الشدادي الجوية بين محافظتي الرقة ودير الزور السوريتين؛ وأخرى قرب نهر الخابور بمحاذاة الحدود السورية العراقية تضم مهبطاً للطائرات المروحية ومعسكراً للتدريب؛ موقع عسكري في عين العرب – كوباني، على الحدود العراقية التركية، وسبت وعين عيسى وخراب عشق.
تتواجد القوات الأميركية أيضا في قاعدة عسكرية بمدينة (تل أبيض) في محافظة الرقة؛ وأنشأت قاعدة عسكرية بالقرب من حقل العمر النفطي في محيط مدينة الميادين بمحافظة دير الزور؛ إضافة لقاعدتي “المبروكة” و “تل البيدر” في محافظة الحسكة اللتين كانتا المعقل الرئيس لتنظيم داعش.
أما في جنوب سوريا، فلواشنطن حضور عسكري “ذات أهمية استراتيجية،” في قاعدة التنف عند المثلث الحدودي بين سوريا والعراق والاردن؛ سبقها إنشاء قاعدة في منطقة (الزكف) التي تبعد نحو 70 كلم شمال شرقي التنف زودتها بأثقل واضخم منظومة راجمات صاروخية في الجيش الأميركي من طراز “الراجمات الصاروخية المتعددة – HIMARS” لتعزيز قاعدة التنف.
وجاء في تقرير استخباراتي أميركي العام الماضي ان الهدف من إنشاء هذه القاعدة هو إغلاق الطريق أمام أرتال القوات السورية و”حزب الله،” للسيطرة على مدينة البوكمال، 200 كلم شمال شرق التنف، و”لمنع إيران إنجاز جسرها البري إلى البحر المتوسط مروراً بالعراق.”
الكلفة العسكرية
يجمع انصار ومناوئو الرئيس ترامب على إدراجة الكلفة المادية “للمغامرات العسكرية” كأولوية في جملة اعتباراته وقراراته. وجاءت أحدث احصائيات صادرة عن وزارة الدفاع لتشير إلى إرقام غير مسبوقة في الإنفاق العسكري مشيرة إلى حجم الكلفة العسكرية “المباشرة للحروب الأميركية منذ عام 2010 بأنها بلغت 1.77 تريليون دولار؛ منها 756 مليار للحرب على العراق وسوريا، 730 مليار في الحرب على أفغانستان ..” يستثنى من تلك الميزانيات المكلفة التي تتحملها وزارة الخارجية في بند “الشؤون العسكرية،” والتي “ربما” تراوحت بين 127 مليار إلى 132 مليار دولار لذات الفترة الزمنية.
اما الخسائر البشرية جراء المغامرات المتعددة فتشير وزارة الدفاع إلى : مقتل نحو 7000 جندي وجرح 52،783 للفترة الزمنية إعلاه؛ اماكلفة تأهيل الجرحى والمعاقين لم يتم التيقن منها لحد الآن لكنها في ارتفاع مضطرد.
ردود الفعل
دولياً، عارضت القوى الغربية الحليفة لواشنطن إعلان الرئيس ترامب وتحفظت عليه، بريطانيا وفرنسا وألمانيا، معربة عن “دهشتها” الجماعية وبأن القرار “يهدد بالحاق الضرر بالحرب ضد الدولة الإسلامية التي لم ينتهي تهديدها بعد، وتقوض النجاحات التي تحققت” للآن.
تركيا رحبت بالقرار الذي أتى عقب مشاورات مكثفة بين الرئيسين، اردوغان وترامب، وتعهد الأخير الاعداد لتسليم أنقره خصمها اللدود المقيم في الولايات المتحدة، فتح الله غولن؛ وإعلانها عن قرب بدء عمليات عسكرية واسعة ضد “قسد” اعتبرها البعض أنها جاءت “بمباركة أميركية.” مسؤول في الخارجية الأميركية، رفض الإفصاح عن هويته، أوضح أن قرار الانسحاب جاء “بعد اتصال هاتفي بين ترامب واردوغان، وكل ما حدث بعد ذلك جاء في إطار تنفيذ الاتفاق الذي توصلا إليه.”
روسيا رحبت بحذر بالقرار الأميركي. الخارجية الروسية جددت معارضتها “للوجود الأميركي غير الشرعي في سوريا (وانه) يشكل عائقاً خطيراً أمام حل الأزمة فيها.” رئيس لجنة الدفاع الوطني بمجلس النواب، الدوما، فلاديمير شامانوف صرح بأن “.. الأميركيين لا ينسحبون أبداً من مواقع سبق أن احتلوها ويبتكرون مبررات للبقاء؛” وخشية موسكو لتأجيج الصراع في محيطها لا سيما في اوكرانيا ومناطق نفوذها في صربيا.
داخلياً، ثارت ثائرة القوى المؤيدة لمعسكر الحرب والتي “تبنت” مسألة دعم انفصال الكرد في كل من العراق وسوريا، أبرزها السيناتور الجمهوري ليندسي غراهام الذي وصف قرار الرئيس ترامب بأنه “وصمة عار في شرف الولايات المتحدة؛ وتنكر للحلفاء الأكراد،” متوعداً وأقرانه بمساءلة الإدارة بعقد جلسات استماع في مجلس الشيوخ في الأسابيع المقبلة. وإمعاناً في “إحراج” الرئيس ترامب، أعلن غراهام عن نيته زيارة القوات العسكرية الأميركية المتواجدة في أفغانستان خلال فترة أعياد الميلاد المجيد.
وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس سارع إلى تقديم استقالته فور الإعلان الرئاسي بالانسحاب مشيراً إلى “خلافاته السياسية” مع الرئيس ترامب، فيما يخص بسوريا ومناطق أخرى، لا سيما وأنه “وافق” على إرسال قوات عسكرية مؤللة للمرابطة على الحدود الجنوبية المشتركة مع المكسيك للتصدي لموجات المهاجرين الوافدين عبر المنطقة الحدودية.
بالمقابل، لوحظ غياب تام لأي استقالات من المناصب الديبلوماسية، بمن فيهم المبعوثين الرئاسيين للتحالف الدولي ولسوريا، بريت ماكغيرك وجيمس جيفري، على التوالي. بيد أن اللافت في قرار ترامب كان إعلان “مسؤول” اميركي رفيع عن “إجلاء كافة موظفي وزارة الخارجية من سوريا خلال 24 ساعة.”
الخاسرون، وفق التقييمات الأميركية، هم حلفاء أميركا أبرزهم “اسرائيل وهي من ضمن لائحة أكبر الخاسرين،” وفق تقرير لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، 19 الشهر الجاري؛ والكرد “الذين تحالفوا مع الولايات المتحدة،” وآخرين منهم “الاردن ولبنان.”
اما خسارة الولايات المتحدة الصافية، وفق التقرير أعلاه، فتتمثل “بتخليها علن ثلاثية أهدافها المعلنة لتبرير وجودها في سوريا: إلحاق هزيمة مؤكدة بداعش؛ إخراج القوات الإيرانية والقوى الرديفة من سوريا؛ وحل سياسي مرحلي مبرم وغير قابل للنقض.” وأضاف بأن الأمر “المحيّر يكمن في أن خصوم الولايات المتحدة لم يتحملوا أي كلفة لتحقيق تلك النتيجة.”
ماذا تنطوي عليه المرحلة المقبلة، من وجهات النظر الأميركية المتعددة، فيما يخص “شرقي سوريا،” يتأرجح بين احتمالين: الأول، غزو تركي لمنطقة شرقي نهر الفرات التي تتجمع فيها “وحدات الحماية الشعبية الكردية، بعد الحصول على ضوء أخضر أميركي بذلك، والتي تتراوح أعدادها بين 30 ألفا الى 60 ألف مقاتل، وما سينجم عنها من موجات هجرة ولاجئين ألى اتجاهات متعددة. الثاني، “عودة” حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي وجناحه العسكري الى التفاوض مجددا مع الحكومة السورية والتي ستجري بمعزل عن أي دعم أميركي، مما سيعيد لدمشق السيطرة وبسط سيادتها على أراضيها التي كانت مسرحاً وخنجراً في ظهرها لمدة طويلة.