ما هي اولويات التغيير في لبنان ؟
غالب قنديل
يتحدث كثيرون عن اولويات التغيير السياسي في لبنان ويضج الفضاء الإلكتروني بالناقمين الذين تتزايد أعدادهم وهم يتسابقون في تقديم الوصفات والمشاريع الهادفة لتكوين نواة صلبة تقود النضال “الشعبي” إلى مسار تغييري كما يتبارون في رسم الأولويات بين إسقاط الطائفية السياسية وحل الآزمة الاقتصادية وحماية المقاومة و”مكافحة الفساد” الشعار المستعار من اجندة التوصيات الأميركية الأوروبية لدول العالم الثالث الخاضعة لتوصيات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.
جميع التمنيات التغييرية التي ينخرط أصحابها في سجالات سياسية وثقافية صاخبة لا يبالي الشعب المحكي عنه بمساراتها في الإعلام الافتراضي او الواقعي وتنحصر رقعة التفاعل العملي بشرائح ضيقة تظهر في بعض التحركات الاحتجاجية التي تستحق الاحترام على ضيق رقعتها.
من الواضح ان الكتل الشعبية الوازنة باقية على ولاءاتها السياسية الطائفية راكنة إليها رغم ما تحدثه الأزمات والمشاكل المتلاحقة من التذمر ومن ضجيج الإثارة بتقنيات الفضائحية الزاحفة على سلوكيات الإعلام اللبناني فمن الواضح ان نزيف الشباب المهاجر وحجم حلقة الشرائح المستفيدة من إعادة توزيع الريع المتراجع في النظام الطائفي ما زالت تتيح التكيف مع الأزمات وترميم المداخيل لكتل لا يستهان يوزنها من أبناء البرجوازية الوسطى والصغيرة المقيمين في لبنان كما هي صارخة حقيقة انقراض الطبقة العاملة واختفاءها من نسيجنا المجتمعي والأولى بالباحثين عن وجهة الصراع الطبقي أن يقصدوا تجمعات العمال السوريين والمصريين وسواهم ممن يكدحون في معاملنا ومزارعنا ومرابعنا.
الغالبية اللبنانية الفعلية تؤثر التكيف على التمرد والبقاء على ولاءاتها او على عزوفها بدلا من تبني مواقف ناقدة للقوى السياسية المهيمنة او لتركيبة النظام رغم تبني قطاعات واسعة لطموحات سياسية تحاكي ما افترضته في الدول والمجتمعات الغربية التي تعرفت عليها نتيجة هجرة بعض الأقارب ام بالسياحة التي صارت ترفا متراجعا عند أعداد متزايدة من العائلات اللبنانية مع الانكماش الزاحف.
جميع الاماني والحلام التغييرية تصطدم فعليا بعقدة رئيسية هي وصاية الحلف الاستعماري الغربي على لبنان اقتصاديا وسياسيا فالطائفية السياسية التي يتلاقى التغييرون على هجائها هي تركة المستعمر الفرنسي التي نشأت عليها البنى السياسية اللبنانية التابعة للهيمنة وفي حضنها تم إنتاج عصبيات التناحر المجتمعي الحامية للهيمنة لتقوم بها بيئة سياسية مناسبة لاستمرار التدخلات الاستعمارية الصهيونية المباشرة ام بواسطة العدو الصهيوني وحلفائه من الحكومات الإقليمية الرجعية التابعة على امتداد عقود من الاستقلال عام 1943 وفقا لرزنامة النظام اللبناني القائم.
توحش الرأسمالية التابعة للهيمنة الأجنبية في لبنان دمر مصادر الثروة ومواردها ولا حل للأزمات من غير إعادة تعيد هيكلة الاقتصاد الوطني فالمشكلة تكمن في بنية تنتهي شبكاتها عند البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وما يدعى بالدول المانحة التي تتخذ أسماء فرنسية متغيرة آخرها سيدر منذ حكومة الرئيس الراحل رفيق الحريري الأولى بعد اتفاق الطائف وجميع تلك البنى السياسة الاقتصادية كناية عن منصات من يقودها فعليا هو الأميركي الذي ما يزال ممسكا بخيوط فاعلة للتأثير في لبنان سياسيا وإعلاميا واقتصاديا وثمة حراس لبنانيون تابعون لمنظومة الهيمنة ولآلة عملها وهم لا يتزحزحون في تركيبة السلطة السياسية ومؤسسات الدولة أيا كانت تقلبات النظام وحكوماته وها لبنان يلحس المبرد ويتوغل في لعق دماء ابنائه.
إنه النظام التابع المتوحش الذي يتركز الهم السياسي لكتله على تعزيز مواقعها لرفع معدلات حصصها من الريع الذاهب صوب شح خطير وكما كل رأسمالية في العالم بدوله المسيطرة او التابعة حين يحين موسم الشح تطلب من الطبقات الوسطى والفقيرة دفع الثمن من مستوى عيشها ومن قدرتها على التكيف وقد ترك للجمهور اللبناني التلهي بمشاهد الصراع الفوقي وشد عصبياته الطائفية خلف قياداته المشاركة في السلطة حتى لا يتفلت ويتمرد.
ولادة الحكومة بعد أشهر انتظار طويلة حدث يقدم إلى الرأي العام باحتفالية صاخبة وسوف يصور لنا التفاهم على صياغة سوريالية لبيان الحكومة في فقرة المقاومة على انه إنجاز عظيم وبألف جميل لأعداء المقاومة المهزومين الذين أرهبوها سياسيا وابتزوها بشبح انهيار هم صانعوه ولكن ما لا يقال للناس ان الحكومة الجديدة ستأتي متلهفة لتنفيذ محفظة تدابير اقتصادية ومالية قاسية تمت التوصية بها في سيدر ويراقبها مفوضو الوصاية الأجنبية.
إن جميع المشاكل محروسة ويمنع حلها الواقعي بقوة الوصاية على لبنان وجذر الفساد الفعلي تأسس مع خضوع الحكومات اللبنانية تحت الوصاية الأميركية السعودية للمحاصصة والتقاسم الطائفي ومع الإدارة الموازية والهياكل والسلاسل المتعددة في الإدارة ومع تعطيل المباريات والمناقصات وكل ذلك هو اعراض جانبية تتسلى بها بعض النخب اللبنانية الثقافية او السياسية بينما الجوهري في مكان آخر فما يهم الإمبراطورية الأميركية قائدة الهيمنة في العالم والمنطقة وراعية هذه التركيبة اللبنانية والمتغلغلة في ثنايا نخاعها الشوكي هو إدامة الخضوع ومنع تعاظم نزعة التحرر بواسطة الحواجز الطائفية والمذهبية وعن طريق الوصاية السياسية على النظام.
منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية المهزومة في المنطقة تفرض اولوية حاسمة هي منع انضمام لبنان إلى محور المقاومة وحفظه خاضعا للإملاءات التي تحجب عنه فرص الاستقلال السياسي والاقتصادي بحظر الاستجابة لشراكات جديدة في بيئتنا الشرقية انطلاقا من سورية وحتى الانتقال من التبعية العمياء إلى التوازن بين المحورين محظور على البلد بكل فجاجة وأتباع منظومة الهيمنة اللبنانيون في النظام يرصدون الصغيرة والكبيرة وعينهم على كل شاردة وواردة لتمرير توصيات وعقوبات تكبل خيار المقاومة في لبنان وتحول دون تنامي إرادة الاستقلال والتحرر.