” ربيع فرنسا” الى أين؟ سركيس أبوزيد
إيمانويل ماكرون رئيس لفرنسا منذ ربيع العام 2017، وصل الى قصر الإليزيه من خارج الطبقة السياسية والمؤسسة الحزبية. صعوده كان سريعاً. فاز بالرئاسة ومن ثم عزز فوزه بالسيطرة على البرلمان. ماكرون الذي حاز على شعبية واسعة، يواجه مساراً عكسياً مع تدھور دراماتيكي في شعبيته الى درجة أنه بات الرئيس الأقل شعبية بعد مرور أقل من سنتين. ومثلما كان صعوده صاروخيا، فإنه يواجه خطر واحتمال “السقوط الصاروخي” أيضا، فهذه أسوأ أزمة تواجهه حتى قيل أنھا الأسوأ منذ العام 1968. وھذه الحركة الإحتجاجية أتت كمتنفس عن الإحتقانات المتراكمة.
بداية، جاءت “فضيحة بنعالا”، وھو اسم أحد موظفي القصر الرئاسي المولج بشكل غير رسمي مرافقة الرئيس وحمايته الذي صُوِّر وھو ينھال ضربا على ثنائي من المتظاھرين يوم عيد العمال في الأول من أيار من غير أن تكون له أي صفة رسمية. ثم جاءت سلسلة الاستقالات الوزارية، وأھمھا استقالة أھم وزيرين في حكومة إدوار فيليب، وھما وزيرا البيئة والداخلية نيكولا ھولو وجيرار كولومب، وتأخر ماكرون في تعيين بدائل عن المستقيلين، وتراجعت شعبيته إلى الحضيض إذ بلغت 26 % من الفرنسيين الذين يؤيدون سياسته.
وكان ثمة إجماع في فرنسا على أن التعاطي مع أزمة “السترات الصفراء”، وكبح الأقلية من المخربين والمشاغبين القادمين من أقصى اليمين واليسار، يمران عبر تمكن الدولة من توفير رد مزدوج: أمني من ناحية، للضرب بيد من حديد على من حطم وأحرق ونھب واستھدف قوات الأمن، ومن ناحية ثانية سياسي، لا يمكن أن يكون دون الحد الأدنى المطلوب، أي تجميد زيادات الرسوم على المحروقات التي قررتھا الحكومة.
وهناك من طرح الإستقالة تحت ضغط الشارع وأيضا تحت ضغط القوى السياسية والحزبية، حيث يسجل إلتقاء بين اليسار واليمين المتطرف. فقد طالب القائد اليساري جان لوك ملانشون وزعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن باستقالة الرئيس ماكرون وحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، واتھما الحكومة بأنھا ھي من سمحت بحصول أعمال عنف بھدف ضرب مصداقية غضب شعبي تعجز عن تھدئته.
مشكلة ماكرون اليوم أن الضغوط لم تعد محصورة في الشارع والرأي العام، وإنما تأتي من الأحزاب، يساراً ويميناً، التي تتحين الفرصة للإنقضاض عليه واستعادة ما أخذه في غفلة من الزمن. ومشكلته أيضا أن الإحتجاجات تحولت الى “سلة مطالب” تتضمن خفض الضرائب وزيادة الحد الأدنى للرواتب ورفع المعاشات التقاعدية.
“التمرد” خرج عن دائرته الضيقة، واتسع ليشمل مطالب اجتماعية وأخرى سياسية. مطالب اتخذت أشكالاً أكثر حدة، كإحراق عشرات السيارات واستھداف بعض المحتجين “قوس النصر”، ليكتبوا على واجھته عبارة: “ستنتصر السترات الصفراء”، فيما كتب آخرون على “دار الأوبرا: “ماكرون = لويس السادس عشر”، آخر ملوك فرنسا قبل الثورة.
يجھد الرئيس ماكرون في احتواء الأزمة التي باغتته وھزت إستقرار باريس الأمني والاقتصادي، المتمثل بحركة “السترات الصفراء”، الذي تلا “سبتاً أسود” عمم الفوضى. وبعد أن ترددت الحكومة طويلاً ومانعت في التجاوب مع مطالب “السترات الصفراء” بحجة رفض الخضوع لضغوط الشارع، اضطرت إلى التراجع بعد أن اقتصرت الخيارات المتاحة أمامھا بأحد أمرين: إما المكابرة وعدم التراجع، وبالتالي ركوب المخاطر بمواجھة موجة أكبر من العنف والمطالب، وإما التراجع والانحناء أمام الموجة التي ما زالت رغم أعمال الشغب والعنف تحظى بتعاطف شعبي لم ينزل تحت عتبة 70% وفق آخر استطلاع للرأي.
لقد بدأ النموذج الاجتماعي بالتآكل مع انطلاق مسار العولمة الاقتصادية التي ظنت النخب الغربية أنه سيفضي إلى تعزيز ھيمنتھا السياسية والاقتصادية على العالم ويسمح لھا بالتحرر من العقود والضوابط الاجتماعية الداخلية.
لم تكن نتائج العولمة كما توقعتھا النخب الفرنسية والغربية. فقد سرّعت من صعود منافسين اقتصاديين وسياسيين غير غربيين، وإلى بداية تراجع نفوذ القوى الغربية وحصتھا من الأسواق العالمية. ومع تزايد حدة المنافسة مع الصاعدين الجدد، باتت النخب الحاكمة في الغرب معنية بإقناع شعوبھا، وليس أصحاب الرساميل الكبرى، بضرورة شد الأحزمة وتقديم التضحيات لتستطيع الشركات الفرنسية منافسة تلك الصينية أو الھندية وإلا فإن أوضاع الشعوب ستزداد بؤسا.
لقد إنطلق ماكرون، مدعوما من أكثريته النيابية، في كسر “النموذج الاجتماعي” الفرنسي القائم على دولة الرعاية، وضرب قانون العمل الذي ھو نتيجة نضالات شعبية ونقابيّة طويلة تعود إلى “الجبھة الشعبية” عام 1936، وذلك خدمة لمنطق السوق وأرباب العمل، والمصالح الرأسمالية. ولم تستطع ثنيه عن عزيمته المعارضة الخجولة التي نزلت إلى الشارع. لكن كان يكفي أن تقرر حكومته رفع الضريبة على المحروقات حتى يلتھب الشارع، ويشتعل حريق بات من الصعب إخماده.
كما ساهمت شبكات التواصل الإجتماعي، وخصوصا الـ”فايسبوك”، في مساعدة الناس على إذكاء جذوة الغضب والسخط.
الإحتجاج الاجتماعي الذي انطلق اعتراضا على رفع أسعار الوقود، آتٍ من بعيد. فهو نتاج لجميع السياسات النيوليبرالية التي جرى تطبيقھا منذ عقود من قبل جميع الحكومات المتعاقبة، اليمينية منھا واليسارية. فتظاهرة “السترات الصفراء” استقطبت أبناء الطبقة الوسطى المنشغلة برخائھا وامتيازاتھا الاجتماعية، بكل أطيافھا السياسية من “اليمين المتطرف” إلى “اليسار الشيوعي”. لكن الدينامية التي تحركھا ھي في العمق نتيجة تراكم حقيقي للنقمة الشعبية على منظومة اقتصادية وسياسية يحكمھا البنك المركزي الأوروبي، وتشكل ملامحھا منطق السوق على حساب الرخاء والأمان الاجتماعي.
الانتفاضة الشعبية في فرنسا، على طريقة “الربيع العربي” ولكن تحت سقف “الشتاء الأوروبي”، إتخذت أبعاداً مفاجئة ومقلقة باتت تھدد الرئيس الفرنسي بالترنّح، واتسمت بالعفوية وبرفض الحزبية الضيقة، بحيث يصعب احتواؤھا من قبل قوة سياسية حصرية. هل تستمر وهل تتمدد في اوروبا؟ سؤال من دون جواب في الوقت الحاضر.