بقلم غالب قنديل

الأزمة العاصفة في الغرب

غالب قنديل

تلوح مظاهر الأزمات السياسية والاضطرابات الاجتماعية في سائر دول الغرب الصناعي وخصوصا في كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وأسبانيا والبرتغال وبلجيكا ويتخطى الأمر ما كان مألوفا مع ظهور تعارضات وتناقضات داخل هذا المعسكر سياسية واقتصادية.

جميع المؤشرات تعكس حالة انحدار لنموذج القوة والتماسك والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي الذي قدمته الدول الاستعمارية عن نفسها خلال الحرب الباردة وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي واختفاء الدول الاشتراكية وانحلالها في اوروبا الشرقية

اليوم تتصدع هذه الصورة الافتراضية بقوة مأزق خطير استراتيجي واقتصادي وسياسي يمس بنتائجه وتداعياته قلب المعسكر الغربي واطرافه وتبدو التمايزات في شدة الوطأة كمية فحسب وهي تعكس خصوصيات التكوين السياسي والاجتماعي للدول الغارقة في ازمات واضطرابات لاحصر لها.

في الولايات المتحدة انقسام داخلي كبير وصراعات سياسية محتدمة وحيرة استراتيجية وفي بريطانيا تخبط حكومي وسياسي وفي فرنسا اضطرابات اجتماعية وسياسية وفي ألمانيا وإيطاليا اعراض كثيرة مشابهة ويتخطى الأمر حدود التغيير في نمط النخب السياسية الحاكمة والانتقال إلى مرحلة ما يسمى بالشعبوية أو نتائج مأزق وتناقضات وارتدادات مسار العولمة الرأسمالية المتوحشة التي سميت بالنيوليبرالية.

كل ما يجري هو ثمرة ازمة عميقة وتكوينية تتصل بعجز الطبقات الحاكمة عن مواكبة التغييرات الجارية في العالم مع انتقال مركز الثروة العالمي من الغرب إلى الشرق للمرة الأولى منذ الثورة الصناعية الغربية وبعد هزائم الغزوات الاستعمارية وحملات الهيمنة التي قادها المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة وما يزال مصمما على مواصلتها وفق ما تشير إليه الوقائع فقوات الاحتلال الأميركية في الشرق السوري تتشارك مواقعها وقواعدها مع وحدات فرنسية وبريطانية بل وإيطالية أيضا وهي محكومة بالرحيل وبتحمل عواقب الاحتلال وقصاص المقاومة الشعبية حين يحل توقيت المبادرات الفاصلة على جدول أعمال الدولة الوطنية السورية وحلفائها ولن تفيد عندها مناورات التسويف والمماطلة أيا كانت الذرائع.

أنها ازمة المنظومة الغربية بقيادة الولايات المتحدة التي عادت مهزومة متصدعة من مغامراتها الاستعمارية وغزواتها الفاشلة والمستمرة في بلدان الشرق ولاسيما في المنطقة العربية حيث تترنح منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية بعد فشل الحرب على سورية وتداعيات احتلال العراق ومأزق حرب اليمن وتنامي محور المقاومة واختناق الكيان الصهيوني وعجزه عن المبادرة إلى حروب جديدة بفضل طوق الردع الذي استكمله نهوض القدرات السورية الدفاعية رغم استمرار العدوان.

يواجه المحور الرجعي المقابل في المنطقة تصدعات كثيرة بينما يتعزز صمود إيران وتزيد من وطأة الهزائم الغربية خيبة الرهان على منع صعود القوى الشرقية المنافسة والمتمردة على الهيمنة الأميركية الغربية الأحادية في العالم ومع تنامي القوة الاقتصادية والعسكرية والفاعلية السياسية لروسيا والصين والهند وإيران وببروز دول تابعة للغرب تقليديا تسعى إلى توسيع نطاق مصالحها المشتركة مع هذه الدول الصاعدة على غرار ما تفعل تركيا وباكستان وسواهما بحكم ضغط المصالح والجوار الجغرافي وتوازن القوى المتحول دوليا وإقليميا.

الركود الاقتصادي الذي يغرق الغرب هو نتيجة انحدار نظام الهيمنة والنهب وتقديم قوى الشرق لبدائل واقعية تلاقي رغبات العديد من الدول والشعوب في الانعتاق من قبضة الهيمنة الاستعمارية وإملاءاتها التي تحول بينها وبين الفرص الكبرى التي تتيحها الشراكة مع دول الشرق للتنمية ونقل التكنولوجيا والتعاون الدفاعي على قاعدة احترام الاستقلال الوطني.

من الجدير بالملاحظة أننا أمام شواهد قاطعة لدخول العالم مرحلة أفول الاستعمار الغربي وتراجع نموذجه الاقتصادي الاجتماعي المكرس للهيمنة والنهب ولحروب الاحتلال التي دمرت بلدانا عديدة وأصابت شعوبا كثيرة بجراح عميقة يصعب اندمالها نتيجة قتل وتشريد الملايين خلال العقود الثلاثة الأخيرة وتكفي معاينة ما حصل في العراق وسورية وليبيا واليمن وأفغانستان وما يجري على أرض فلسطين.

الغطرسة العدوانية وبشاعة الهيمنة حفزت إرادة المقاومة والتحرر وتناغم القوى الجديدة الصاعدة وشراكاتها السياسية والاقتصادية وقدراتها العسكرية وفرت الحضن الداعم لتلك الإرادة و يمكن معاينة نموذج الملحمة الكبرى الجارية في سورية وفهم تداعياتها ونتائجها الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية لفهم جوهر التحولات الكبرى التي تطل على العالم المعاصر وستحكم مسار الأحداث لعقود قادمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى