بقلم ناصر قنديل

أزمات بريطانيا وفرنسا وأميركا وجوه مختلفة لجوهر واحد: ناصر قنديل

في بريطانيا انقسام داخل حزب المحافظين الحاكم حول حسن أو سوء إدارة رئيسة الوزراء تيريزا ماي تجاه قضية الانفصال عن الاتحاد الأوروبي قد يؤدي إلى سقوط الحكومة، والدخول في حال من الفوضى السياسية بسبب عدم تبلور أغلبية جاهزة للحكم، سواء من داخل المحافظين أو من حزب العمال. وفي فرنسا انسداد سياسي بخلفية اقتصادية اجتماعية تحمله تظاهرات السترات الصفراء في ساحات باريس والمدن الفرنسية كل سبت، مقابل عجز الحكومة عن المعالجة الأمنية أو التفاوضية، وفشل الرئيس أمانويل ماكرون في لعب دور الحكم بين الحكومة وجموع الغاضبين وتحوّله عنواناً للأزمة. وفي أميركا ملاحقة للرئيس دونالد ترامب في الكونغرس والصحافة والرأي العام على خلفية تمسكه بالعلاقة مع ولي العهد السعودي رغم تورطه في قتل جمال الخاشقجي ومسؤوليته عن حرب اليمن وما يتخللها من مجازر، وعجز واضح عن إيجاد مشتركات أو تسويات بين طرفي المواجهة الذاهبة إلى التصعيد بوسائل قانونية وسياسية وإعلامية .

لا تحتاج المكانة التي تحتلها الدول الثلاث في رسم السياسة الدولية كزعيمة لمعسكر الغرب لإثبات، ولا يحتاج تظهير حجمها الاقتصادي في المعسكر الرأسمالي العالمي إلى دليل. وهي في كل حال الدول الغربية التي تملك حق النقض في مجلس الأمن الدولي، ونادراً ما تزامنت معايشتها أزمات يتداخل فيها الغضب الاجتماعي مع التراجع الاقتصادي والفشل السياسي، ويتولى الحكم فيها أشخاص جاؤوا من خارج الخيارات التقليدية، فأمانويل ماكرون الآتي من الغموض لا يختلف كثيراً عن دونالد ترامب القادم من خارج نخب الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وتيريزا ماي لم تكن يوماً في واجهة القيادة المرشحة للحكم في صفوف حزبها.

بعض التدقيق في ظروف الأزمات وولادتها في كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة، سيوصلنا إلى أنها ارتدادات داخلية للفشل الخارجي في الحملة الإمبراطورية التي قادتها أميركا وشاركت فيها كل من فرنسا وبريطانيا، منذ سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي، وحققت نجاحات في المقلب الأوروبي من الخريطة الدولية مع حرب يوغوسلافيا وتمدد الاتحاد الأوروبي نحو حدود روسيا، لكنها أخفقت في نسختها الآسيوية التي بدأت منذ تسلّم المحافظين الجدد للحكم في البيت الأبيض وشنّ حربي أفغانستان والعراق، وتكرّر إخفاقها مع الفشل في الحرب الناعمة التي هدفت للسطو على سورية بعد نجاح خديعة الربيع العربي في تونس ومصر ونجاحها النسبي في ليبيا واليمن، والعنوان أخونة المنطقة وتمدد العثمانية الجديدة كرديف مواز للاتحاد الأوروبي في الوصول إلى حدود روسيا والصين بعناوين إسلامية، أملاً بأن ينتهي تطويق روسيا والصين وحصار إيران بالإمساك بسوق الطاقة بصورة تتيح التحكم بشروط تصدير الغاز الروسي إلى أوروبا، وشروط شراء الصين للنفط والغاز ودرجات النمو المسموح لها بتحقيقها، ومنع إيران من لعب دور فاعل في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، خصوصاً ما يتصل بأمن «إسرائيل» ومكانة السعودية كركيزتين لمفاهيم السياسات والاقتصاد والأمن في غرب آسيا.

– الحلم الأميركي كان زعامة العالم، والنصيب البريطاني والفرنسي كان الحصول على غاز رخيص وقدرة تنافسية عالية مع بضائع صينية مرتفعة الأسعار لتعويض أثمان ضمّ الأجزاء الشرقية من أوروبا إلى الاتحاد، وما تجلبه من منافسة على مستوى اليد العاملة والبضائع الزراعية لدول غرب أوروبا، وتعويض أثمان استقبال موجات النازحين الذين تضخهم الحروب الأميركية نحو أوروبا، لكن الفشل الكبير قد وقع، وعادت روسيا القوية واللاعب الفاعل، وخرجت الصين قوة اقتصادية تدقّ أبواب العالم، وصمدت إيران، وكسر مشروع العثمانية الجديدة، وانضوت زعيمته تركيا تحت عباءة روسية إيرانية، وبقيت السعودية و»إسرائيل» حليفتين وحيدتين للعبة أميركية خطرة على المصالح الأوروبية بإثارة القلاقل في الشرق الأوسط، وكان العجز عن تأمين الشريك الفلسطيني في صفقة القرن والعجز الإسرائيلي عن مواصلة دور مخلب القط العسكري على حدود سورية وغزة ولبنان، والفشل في تحقيق إنجاز في حرب اليمن، علامات الشيخوخة التي فتكت بالمعسكر الغربي، ففي واشنطن تساؤلات عن الخيارات الكبرى، وفي بريطانيا انسحاب من المركب الغارق للاتحاد الأوروبي، وفي باريس أسئلة عن وعود الرفاه المفقود، كلها علامات أمراض الشيخوخة، زهايمر وبيركنسون وفشل كلوي وضغط شرايين القلب وسكري، وربما توقف مفاجئ في نبض القلب. هي وجوه متعددة لأزمة واحدة تعصف إلى إشعار آخر بالمعسكر الغربي في عواصمه الفاعلة، أزمة سقوط الحملة الإمبراطورية المتواصلة منذ ثلاثة عقود، حملة العولمة التي بدأت مع سقوط جدار برلين وفي مواجهتها الوطنية التي نجحت بتفكيكها مع سقوط حلب من بين براثن الحملة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى