غبار الشتائم والمليار الضائع
غالب قنديل
قطعت الطرق واحرقت مستوعبات النفايات والدواليب احتجاجا على تغريدات وتصريحات تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي وأعادت تدويرها للرأي العام مؤسسات المرئي والمسموع الغارقة في سلوك الإثارة الطائفية والجنسية والفلتان السياسي الشامل بحثا عن شعبوية الصدى ومردوده الإعلاني والمالي.
لغة الشتيمة السياسية سيطرت على سجالات الأيام القليلة الماضية وهي عاهة لا يبررها أي اختلاف لكونها تنم عن فقدان المنطق والحجة السياسية المقنعة فيتدهور الفريقان المتخاصمان نحو الشخصنة والتهديدات المتبادلة ومن بعدها ومعها تجري استثارة العصبيات باستعمال التعابير المذهبية والطائفية ويلجأ المتخاصمون إلى استباحة الغوص في الشؤون الشخصية فتضيع القضية العامة ويخسر مرتكب الشتيمة على الجانبين حجته على خصمه السياسي الذي يستثمرها للرد على الشتيمة بما هو أقذع وأشد فجورا.
الحقيقة المؤلمة هي أن ما تثيره تلك الفوضى الكلامية المتوحشة من غبار يخفي امورا خطيرة ويلهي الناس عنها ويكشف المسار انسياق الناس خلف الإثارة وتبلد الحس العام عند جمهور تحركه العصبيات والولاءات العمياء بقوة انتمائه الطائفي السياسي فيتسقط الزعماء في كل تلك الغوغاء فرصا لما يسمونه “شد العصب ” خلف قاماتهم البهية.
الدليل البسيط هو ان ما حرك زوابع الإثارة والتوتر تزامن مع إعلان عدد من النواب بعد جلسة للجان النيابية انعقدت حول انفلات المجارير واكتساحها لشاطئ الرملة البيضاء أنهم اكتشفوا مليار دولار مهدورا كان مخصصا لإنشاء محطات لتكرير وضخ مياه الصرف الصحي في المنطقة ورغم ذلك لم يتحرك الشارع الذي هيجته أسباب فئوية ومذهبية ولا تحرك الملف إلى تحقيق نيابي او قضائي.
طبعا تقول التصريحات النيابية إن المشروع المفترض لمحطات معالجة الصرف الصحي المعطلة نفذ تحت إشراف مجلس الإنماء والإعمار الذي تم استحداثه في السبعينات من القرن المنصرم بنصائح اميركية واوروبية فرطت هياكل التخطيط المركزية وشطبت وزارة التصميم العام في الدولة لصالح هذا المجلس الذي يؤتمن على توصيات واستشارات دولية يشرف على تنفيذها ويتعاقد مع شركات الخبرة الغربية لوضع الخطط والخرائط كما توضع بتصرفه معظم القروض والهبات الخارجية المكرسة لمشاريع البنية التحتية التي يعهد بها تحت إشرافه لشركات المقاولة المحلية.
إنه مليار من عشرات المليارات المفقودة يصيح بعض النواب أنهم وجدوه والأمر ليس بسيطا بل قد يكون مفتاحا يفضي لجلاء الكثير عن خفايا تبديد أموال الدين العام التي سيكد اللبنانيون لعشرات السنين القادمة من أجل سدادها أو هم سيسكبون عوائد مكتشفات النفط والغاز الموعودة في صناديق الدول المانحة التي تكبل البلاد بقيودها السياسية والاقتصادية مسبقا.
اختفى المليار الضائع في متاهة من الشتائم والغبار وتم ستر فضيحة حقيقية بإلهاء الناس في زجليات لا تقدم ولا تؤخر سوى لتأجيج التوتر المذهبي ولتوسيع دائرة الاحتقان الشارعي وقد تنفس رئيس الحكومة المكلف الصعداء لما جاءته النجدة من معسكر الخصم فأحسن محازبوه استثمارها بتحريك مثيري الشغب إلى قطع الطرقات والشوارع.
التحقيق في هذا المليار ضرورة منطقية وسياسية واخلاقية ليس فحسب لكشف ملابسات ما جرى في الرملة البيضاء بل أيضا لفتح مغارة المشاريع والعقود المنفذة بقروض وهبات مقيدة ضمن سجلات الدين العام وهي لم تحقق شيئا لحل المشاكل المنسوب إليها حلها والتخلص منها ناهيك عما ينسب إليها من غايات في التنمية الاجتماعية والاقتصادية ولا نعرف ولن نعرف من غير تحقيق جدي إن كان هذا المليار من أصل المليارات الإحدى عشر التي قال تقرير لجنة المال والموازنة كما اكدت وزارة المال انها صرفت دون مستندات في السنوات الماضية وظلت فجوة خطيرة في قيود المالية العامة.
ترى من يلتفت إلى القضايا الجوهرية في غابة الغوغاء الطائفية وفي وقت صارت معه كل الرموز والقضايا الكبرى مستباحة للتهريج الإعلامي دون سؤال؟.