عندما تحكي ساعة ”التل”! بقلم: ابراهيم عوض
يوم الجمعة الماضي، أنهيت تدريسي لطالبات السنة الأولى في كلية الصحافة والاعلام التابعة لجامعة العزم عند الساعة الحادية عشرة صباحا. وهممت بالتوجه سيرا على القدمين من “دوار أبو علي”، حيث تقع الجامعة على مقربة منه، وصولا الى طلعة “ابو سمرا” المحاذية للأسواق الداخلية لرغبتي في تفقدها، وأنا الذي أشتاق الى أجوائها في كل حين، خصوصا أنها تذكرني بأيام الطفولة. ويوم كنت أهرع من “مدرسة الفرير”، الواقعة على مقربة منها، الى “سوق العطارين” لتناول سندويش “مغربية” من مطعم “الدبوسي” غير آبه بالأمطار والزوابع ولا بالمياه التي تسري كالأنهار داخل السوق.
مشيت بمحاذاة “أبو علي” الذي بات يشبه الأطلال. ورحت أنظر يمنة ويسرى الى عربات بائعي الخضار المنتشرين على الجانبين، وكذلك الأكشاك المتنوعة التي يعلن أصحابها عن توفر القهوة والشاي والمرطبات لقاصديها. ولن أنسى باعة الكعك، وكذلك المحلات الموزعة على الطرف الأيمن، والتي تحجب الشاحنات والسيارات المركونة هناك رؤية واجهاتها، ومعظمها يبيع الخردوات والزجاجيات وبعضها السجاد.
أنظر الى المكان من بعيد أولا ثم عن قرب. وأتحسر كوني ألمس الحالة المزرية التي وصل اليها الطريق والرصيف، ناهيك عن كمّ الأوساخ المرمية أرضا، فيما النفايات والأعشاب تكاد تقلص من حجم النهر الذي يعبره القليل من المياه، بحيث تحوله الى ساقية. وهو الذي فاض في الخمسينيات وطاف على المحلات والمنازل المجاورة وتسبب بسقوط ضحايا على ما أذكر، حتى راح أجدادنا وآباؤنا يسردون القصص والروايات عن هذا الطوفان الذي اعتبروه فريدا من نوعه آنذاك، وقد فاتهم رؤية “الطوفانات” بالجملة والمفرق تغزو بيروت ومناطق عدة في البقاع، حتى بلغت أخيرا منطقة “الروشة” التي زحفت اليها المجارير وشكلت نوافير ضخمة صبّت قذارتها على “الكورنيش” وأعاقت حركة السير ليبدأ بعدها تبادل الاتهامات والبحث عن المسؤول “المعروف” المسبب لهذه الكارثة، بعد أن سدت انابيب الصرف الصحي بالباطون لدواعي بناء مجمع حديث على حد ما جاء في المعلومات والأخبار.
هذا في بيروت.. وبالعودة الى مدينتنا التي بدت في تلك اللحظة ومن الموقع الذي أتواجد فيه كأنها تواجه الهريان الزاحف نحوها بفعل الاهمال المتمادي الذي تتعرض له منذ سنوات. أوَ لم نسمع بأن هناك سوقا منظمة ستقام هنا مخصصة لتجار وباعة الخضار والفاكهة، وقد وُضعت الخرائط المخصصة لذلك ومعها التصميم المتقن كما ذكر، الأمر الذي سيحول المشهد البشع حاليا الى آخر مشرق بهيج. لكن “ع الوعد يا كمون” ها هو المشروع يتحول الى سراب، لينضم الى غيره ممن أصابه الخراب أو الشلل على غرار ما جرى في الملعب الأولمبي، الذي تذرع المعنيون بأمره بأن وجود الجيش داخله يحول دون تأهيله واستخدامه. وها هو الجيش قد أخلاه منذ أشهر ولم يطأه أحد حتى الساعة. لا بل هناك من زاد الطين بلة بعد أن جعل من الساحة المواجهة له حلبة لـ” تشفيط” السيارات والقيام بحركات بهلوانية بهدف جذب المشاهدين صباح كل يوم أحد، الذين يغادرون المكان وقد غطاه السواد ومنظر الدواليب المبعثرة.
وعلى غرار الملعب المهجور يقف مبنى المدرسة الفندقية في الميناء خاليا من أهله. وهو الذي عُوّل عليه لاستقطاب عشرات الشبان العاطلين عن العمل وتشغيلهم، ومعهم المطعم الذي لا بد أن يجذب الرواد من طرابلس وخارجها. والغرابة أن أحدا لا يملك تفسير ما هو حاصل في هذا المرفق الحيوي، المطبق على أنفاسه حاليا، بعد أن أُنجز بناؤه بالكامل وقبل سنوات أيضا.
الوضع في الأسواق، بدءا من “الطرطوسي”، الذائع الصيت، ليس على ما يرام هو الآخر. واذا كانت أبواب المتاجر موحدة في شكلها الخشبي الذي يحاكي التراث، الا أن الفوضى بادية للعيان في كل مكان، وقد اختلطت البضائع المعروضة داخلها بأفران المناقيش ومحلات الحلويات حتى بدت الصورة سوريالية، خلافا لما هو عليه الحال، على سبيل المثال، في أسواق دمشق القديمة المتراصة والموزعة بشكل متانسق لا وجود فيها لغير أصحابها التجار والباعة، ولا تفوح منها رائحة الفلافل أو الصعتر. والأهم حفاظها على النظافة المفقودة في أسواقنا المشابهة، وكأنها عدوى تتناقلها الشوارع الأخرى امتدادا الى “التل” وساحته التي كانت المتاجر المتحلقة حولها مقصد الطبقة الارستقراطية، خصوصا في الخمسينيات والستينيات، ومعها صالتا سينما. الأولى “الامبير” المصنفة خمس نجوم. والثانية “الدنيا” التي كان يجاورها بائع “الجلاب” مع لوح الثلج الذي كان يبرشه الأخير قبل وضعه في الكوب على مرأى من المنتظرين الكثر المتلهفين لتذوق “انتاجه” المميز.
حتى باصات “االأحدب” التي كانت تغص بالطلاب والطالبات طيلة نهار الأحد، لم تكن الباحة المخصصة لها “خبيصة” كما هو حاصل الآن بعد، أن اختلط حابل محلات السندويش وروائحها المتنوعة بنابل الدكاكين الشعبية المواجهة لها ومنها من امتد الى الأرصفة.
بكلمة موجزة “ساحة التل”، التي كنا نقصدها مرات يوميا، بات الكثيرون يتجنبون المرور فيها، خصوصا من عرفوها في عزّها. والناظر اليها اليوم يستعيد الذكريات الحلوة وتنتابه الغصة. لا على ما حل بها فحسب بل على ما أضحت عليه طرابلس بشكل عام، وكأن الزمن جارَ عليها فخمدت الحركة فيها، خلافا لما كانت عليه بالأمس البعيد. وهذا ما تشير اليه عقارب الساعة الفارهة الطول إذ توقفت عند الخامسة الا ثلثا، فيما كان التوقيت عندما مررت بقربها يشير الى الحادية عشرة صباحا.
“الانتشار”