ترامب والمؤسسة الحاكمة: توظيف قضية خاشقجي في الصراع الداخلي د.منذر سليمان
إقحام مقتل جمال الخاشقجي في صلب السياسات الأميركية
أنعش الجدال الداخلي بين مراكز القوى المتعددة، من ناحية، والرئيس ترامب وما يمثلة من شرائح مؤيدة بين النخب والمصالح الاقتصادية الضخمة؛ واستنهض ايضاً طرح تساؤلات كامنة حول “بوصلة” العلاقات الأميركية مع السعودية والتي ينبغي اخضاعها وتوظيفها لخدمة المصالح الأميركية.
أمام تردد الرئيس ترامب في تحديد صاحب قرار الاغتيال انبرت وكالة الاستخبارات المركزية في “تسريب” بعض ما لديها من معلومات تسلط فيها الضوء على ولي العهد محمد بن سلمان، مشكلة بذلك غطاء إضافيا لوسائل الإعلام الكبرى، وعلى رأسها مؤسسة واشنطن بوست، لتقييد حركة الرئيس في بعدها الداخلي، وتهميش الدور “المتخيل” لجيل الأحفاد من آل سعود.
وذكّرت وكالة الاستخبارات المركزية، التي تقود وتوجه الحملة الإعلامية ضد ابن سلمان في هذا المنعطف السياسي، ما غاب ربما عن حقيقة المسلمات “التاريخية” في العلاقة التي نسجها الرئيس الأمبركي الأسبق، فرانكلين روزفلت مع إبن سعود، 14 شباط/فبراير 1945، وهو في طريق عودته من مؤتمر يالطا بعد ارساء “تفاهمات” الدول الكبرى لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أطلق على اللقاء مصطلح “زواج المصلحة.”
احدى المحطات البارزة في سياق “تصويب” الوكالة المركزية لطبيعة العلاقة مع السعودية جاءت بصريح العبارة كما يلي “.. تطلعت الولايات المتحدة للسعودية (منذئذ) لمساعدتها في استتباب الاستقرار الإقليمي .. وتحييد صعود القومية العربية المناوئة للغرب تحت ريادة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، و(التصدي) لانتشار اشتراكية البعث في سوريا والعراق وفي عموم الوطن العربي – لا سيما بين اوساط الطلبة الجامعيين .” واضافت الوكالة عبر عدد من أنصارها في الأوساط “الاعلامية وخبراء الاستراتيجية،” أن واشنطن علقت آمالاً ثابتة على دور السعودية “.. للتساوق مع رغباتها في حجم الانتاج النفطي وسياسات تسعيره (بالعملة الأميركية) عبر تكتل اوبك.”
ربما لا نجد اكتشافاً جديداً في تلك “الخلفية” التاريخية، لكن صياغة الذاكرة الأميركية استدعت اركان المؤسسة إلى تحديد السقف السياسي والخدمات المطلوبة من “الحليف” السعودي، ليس إلا، والذهاب إلى “تحذير” نزعات اصطفاف الساسة الأميركيين إلى مربع مريح من العلاقات الآنية، رغم مردودها الاقتصادي، والتذكير مرة أخرى بأن “صراعات وراثة العرش السعودي .. تستدرج الولايات المتحدة إلى موقف غير موفق لتأييد فريق على آخر.”
الرئيس ترامب من ناحيته لجأ إلى تسخير النفوذ “الاسرائيلي” وتقاطع المصالح بين تل أبيب والرياض ليكشف بأسلوبه الفج المعهود أن “السعودية (تشكل) قاعدة كبيرة للولايات المتحدة في المنطقة ولولاها لكانت إسرائيل في ورطة كبيرة .. السعودية ساعدتنا لتخفيض اسعار النفط.”
في البعد الاقتصادي الصرف، تجاوزت معدلات انتاج الولايات المتحدة النفطية ما تنتجه السعودية يوميا، ولم تعد “أسيرة” دول تابعة لها، كما كان يروج بعد أزمة النفط العالمية في أعقاب حرب تشرين/اكتوبر 1973. وعليه، رمت وكالة الاستخبارات المركزية الى “تحييد” عامل النفط في رسم السياسات الاستراتيجية الأميركية.
من يتحكم بقرار الرياض؟
“.. سيطرة (ولي العهد) م ب س على السلطة أضحت محفوفة بالمخاطر ومكانته الأقليمية اهتزت كثيراً على خلفية مقتل جمال خاشقجي.” هكذا مهدت وكالة الاستخبارات المركزية، عبر اركان المؤسسات الإعلامية، المشهد السياسي الأميركي وإعادة صياغة مستقبل العلاقة المقبلة، باستثنائها عامل النفط واذا “ما زالت السعودية أهلاً لتلعب دوراً في الاستراتيجية الكونية” للولايات المتحدة؛ بل “.. هل من الحكمة أن تقرن واشنطن ثقلها إلى جانب م ب س، في الوقت الذي يطالب فيه المجتمع الدولي تقديم (المجرمين) إلى العدالة.”
حرب اليمن الذي تقودها السعودية والإمارات وحصار البلدين لقطر “حليف أميركا الأساس” في الخليج شكلت فرصة سانحة لتحميلهما المسؤولية “في تدهور الاوضاع الإنسانية” دون المساس بمكانة ومركزية القرار الأميركي في الحرب على اليمن بشكل خاص. وجرى توظيفها، من قبل الوكالة المركزية واركان المؤسسة الحاكمة، لتحميل الرئيس ترامب مسؤولية التدهور “نظراً لفهم وادراك قاصر في ادارته لماهية المصالح الأميركية في الأقليم .. والتي باتت صنواً لعلاقة شخصية تربط ابن سلمان مع صهر الرئيس جاريد كوشنر.” تلك هي من الفرص النادرة التي تسلط فيها المؤسسة الحاكمة سهام انتقاداتها على الدائرة العائلية الضيقة حول الرئيس ترامب، على الاقل في توجيه الجدل السياسي لهذا المنحى من النقاش.
جال رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق، جون برينان، على وسائل الإعلام المقروءة والمرئية للترويج ضد “تعويم” محمد بن سلمان واصفاً الأخير بأنه “سرطان” يهدد العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة “وينبغي علينا استنباط سبل للقضاء على السرطان والمضي قدماً (بتعزيز) العلاقة مع الرياض التي تعد بالغة الدقة للاستقرار الإقليمي ومصالحنا القومية.”
برينان، قبل تسلمه منصب مدير الوكالة شغل منصب مدير محطة السعودية في وكالة الاستخبارات المركزية ويتمتع بعلاقات وثيقة مع معظم “شريحة الأمراء النافذين” في العائلة الحاكمة السعودية.
وزادت الوكالة المركزية بأن ابن سلمان “اضحى عبئاً على مستقبل العلاقات الأميركية السعودية،” نظرأ لسلوكياته المتهورة “واندفاعه الجنوني” لتحقيق مآربه، معززاً مخاوف الأجهزة الأمنية الأميركية من كونه مصدر قلق لمغامراته المتعددة وعدم الثقة بأهليته وما قد يشكله من “تهديد على المصالح الأميركية في المنطقة.”
تصفية حسابات متعددة الاتجاهات
“الانقلاب” على العرش السعودي تجذر داخل المؤسسة الأميركية بكافة تشعباتها وامتداداتها، وبات للوكالة المركزية حضوراً ثابتاً ومرئي في المؤسسات الإعلامية، لا سيما مؤسستي واشنطن بوست و نيويورك تايمز وشبكة سي ان ان للتلفزة بشكل مكثف، عنواناً للصراع الداخلي بين الرئيس ترامب ومؤيديه من ناحية، وبين أركان المؤسسة الاستخباراتية والأمنية والعسكرية ونفوذها الإعلامي، لتقليص العلاقة “الشخصية” التي نسجها ترامب وصهره جاريد كوشنر مع ابن سلمان بالتوازي او بالرغم من القنوات الرسمية القائمة؛ ولرغبة المؤسسة الجامحة التحكم بمفاصل الصراع في اليمن، ليس رغبة في انهاء المأساة الانسانية، كما يقال، بل لضمان عدم خروجها عن الحد الذي قد يقوض الصراع الأوسع لأميركا في آسيا.
اصطفاف بعض ابرز قادة الكونغرس من الحزبين، لا سيما في الحزب الجمهوري، لنداءات “الاجماع الأميركي” بمعاقبة ابن سلمان يأتي في ذات السياق لخشية المؤسسة الحاكمة من توريط الرئيس ترامب بلاده في أزمة تتدحرج في ابعادها لتصرف الأنظار عن الملاحقة القانونية للرئيس واعوانه.
يستنتج من مجمل التوجهات في مجلسي الكونغرس أن المؤسسة الحاكمة “نجحت” في استدراج المؤسسة التشريعية للعب دور مؤيد لها في الصراع الداخلي، تحت عنوان مضلل وهو مستقبل السعودية. وبرزت تساؤلات عالية الوتيرة مؤخراً متسائلة عن “دور الكونغرس في صون المصالح الأمنية للبلاد في حال احجم أو فشل الرئيس ترامب عن لعب دور محوري واستراتيجي في تحجيم نزعة محمد بن سلمان المتعطشة لتركيز مصادر القوة بين يديه، وعدوانيته تجاه جيرانه” العرب وتراجع الزخم السياسي والعسكري لاقصاء ايران نتيجة لذلك.
على الطرف المقابل من الجدل داخل أجنحة المؤسسة الحاكمة، تصدر معهد نايت (الفرسان) التابع لجامعة كولومبيا العريقة، مساعي مقاضاة المؤسسات الاستخباراتية بتقديمه دعوى تطالب فيها القضاء للتدخل ضد “وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيدرالي ووكالة الأمن القومي ووزارة الخارجية ومكتب مدير الاستخبارات الوطنية” للافراج عن سجلاتها ووثائقها الخاصة بما يتعلق بالخاشقجي استناداً لمعلومات توفرت لديها حول “احجام” تلك المؤسسات عن إبلاغ خاشقجي بالخطر الذي تهدده أن وطيء مبنى القنصلية السعودية في اسطنبول.
وانضمت مؤسسات حقوقية اميركية موازية، لجنة حماية الصحافيين، تطالب تلك المؤسسات بالإفراج عما لديها من معلومات خاصة بهذا الشأن.
وعليه، يمكننا القول أن بعض التيارات “الليبرالية” داخل المؤسسة الحاكمة تحمل الأجهزة الاستخباراتية الأميركية “جزءاً” من المسؤولية وتتهمها بالتواطوء في عملية اغتيال “الصحفي” جمال خاشقجي، كما توصفه دوما واشنطن بوست واقرانها؛ بينما تخوض تلك المؤسسات جولة صراع مع المؤسسة الرئاسية.
مركز الدراسات الأميركية العربية – واشنطن