إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (21) حميدي العبدالله
واضح أن عملية إعمار شاملة ليست رغبةً أو إرادة سورية، بل طموح للتصدي لواقع أليم تسببت به حرب كانت منذ البداية تستهدف ضرب مقومات وقدرات سورية, الوطن والدولة، ولهذا لم يكن صدفةً أن يتم توجيه الإرهابيين إلى استهداف المرافق العامة والقطاعات الخدمية والإنتاجية وتقويض أسس الاقتصاد لجعل عملية النهوض الاقتصادي من جديد عمليةً مكلفة وصعبة ومعقدة وتحتاج إلى مئات مليارات الدولارات، إذ تتراوح التقديرات حول كلفة إعادة بناء إعمار سورية ما بين 250 مليار دولار وهو تقدير الحد الأدنى 750 مليار إلى تريليون دولار.
بديهي أن الدولة السورية لا تتوفر لديها موارد قادرة على النهوض بعملية إعادة الإعمار بما يتناسب مع طموحها وتطلعات المواطنين، لأن الحرب التي استمرت حوالي (8) سنوات استنفذت كل مقدرات الدولة ولم يعد لدى الدولة من الاحتياط أو من مدخرات السوريين ما يوفر كلفة ومتطلبات عملية إعادة الإعمار.
ويمكن الاستنتاج في ضوء حجم الخراب والدمار الذي حل بسورية جراء الحرب الإرهابية، وتدني موارد الدولة وحتى ادّخار المواطنين, أن حلّ هذه المسألة من أعقد ما يواجه الدولة السورية والحكومات التي ستتعاقب خلال فترة عملية إعادة الإعمار، سيما وأن الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، وبالتالي حكومات المنطقة التي تدور في فلكها, لا تزال ترفض تسهيل عملية إعادة الإعمار وتربط رفع العقوبات على سورية، أو عدم عرقلة عملية إعادة الإعمار بالحصول على مكاسب سياسية رفضتها سورية الدولة والشعب منذ الأيام الأولى للحرب، وبالتالي من غير المنطقي أن تقبل سورية أن تقدم ما رفضت تقديمه أثناء الحرب وبعد تقديم كل هذه التضحيات، وأن تعود وتقبله الآن كي تتخلى الحكومات الغربية عن سياسة العقوبات وتسهّل عملية إعادة الإعمار.
ومن نافل القول إنه في ظل استمرار العقوبات واستمرار الإصرار على عرقلة عملية إعادة الإعمار, وفي ظل سيطرة الولايات المتحدة والحكومات الغربية على النظام المالي الدولي، فإن معارضة هذه الحكومات لعملية إعادة الإعمار تولد تحديات إضافية أمام الدولة، وتجعل قدرتها على الحصول على استثمارات تغطي احتياجات عملية إعادة الإعمار عمليةً صعبة ومعقدة، وتفرض على الدولة والحكومة السورية اللجوء إلى اعتماد إجراءات فاعلة في مساراتٍ غير تقليدية.
لا شك أن تجارب التاريخ برهنت أن الحكومات الغربية تتحدث كثيراً عن دور لها في إعادة الإعمار، ولكن في الواقع هي تقوم بعكس ذلك حتى في البلدان التي احتلتها. وباستثناء تجربة مشروع مارشال الذي أعقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا، فإن الولايات المتحدة لم تساهم في إعمار أي بلد هدمته الحرب، بل استغلت نتائج الحرب والحاجة إلى إعادة الإعمار للهيمنة على أوروبا وتحويلها إلى دول تابعة، إضافة إلى الهيمنة على اليابان، وبالتالي فإن الحكومات الغربية لم تساهم في إعادة بناء العراق وأفغانستان بعد تهديمهم أثناء غزوها لها، بل عمدت إلى اعتماد سياسة معاكسة قائمة على النهب. وبعد احتلال العراق كرست مجلة «نيوزويك» الأميركية أحد أهم تحقيقاتها المكرسة للحديث عن إعادة إعمار العراق في ظل إدارة بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق، وقالت في هذا التحقيق إن اكبر عملية نهب في التاريخ حدثت في العراق بذريعة العمل على إعادة إعماره.
ويمكن من خلال استعراض سجل الحكومات الغربية في عملية إعادة الإعمار الوصول إلى نتيجة لا يمكن المجادلة بشأنها، وهي أن الحكومات الغربية تجيد الحديث عن إعادة الإعمار وإطلاق الوعود, وعقد المؤتمرات، ولكنها في النهاية تكتفي بأعمال واستثمارات تقود إلى وضع يدها على المرافق المربحة في البلد المستهدف ونهب عائدات هذه المرافق وتحويلها إلى الخارج بدلاً من توظيف هذه العائدات في عملية إعادة إعمار البلد المقصود والمعني.
بعد احتلال أفغانستان عقدت عشرات المؤتمرات الدولية التي نظمتها الحكومات الغربية تحت عنوان إعادة إعمار هذا البلد، ولكن تبين وبعد مرور حوالي 15 عاماً على الاحتلال الأميركي والغربي لهذا البلد أن عملية الإعمار لم تنطلق وأن الاستثمارات التي جرى الحديث عنها وهي بعشرات مليارات الدولارات، في المؤتمرات التي عقدت للحديث عن إعادة الإعمار، لم يصل منها أي شيء إلى أفغانستان. وقبل ذلك عندما قبلت منظمة التحرير توقيع اتفاقات أوسلو أيضاً عُقدت عشرات المؤتمرات التي كان الهدف المعلن منها أنها تسعى إلى جمع مليارات الدولارات لتحويل المناطق التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية إلى مناطق مزدهرة للحؤول دون استمرار المقاومة ليتبين لاحقاً أن السلطة الفلسطينية لم يصلها أي استثمار من أي جهة، باستثناء بعض المعونات للإنفاق على موظفي السلطة ولاسيما القوى الأمنية التي تعمل على حماية إسرائيل من المقاومة وحتى هذه المعونات جاءت من الحكومات العربية، وليس من الحكومات الغربية.
بعد احتلال العراق أيضاً تمّ تنظيم مؤتمرات دولية لإعادة إعمار العراق, وعلى الرغم من أن الاحتلال الأميركي للعراق استمر حتى عام 2011, وعلى الرغم من أن نفوذ الولايات المتحدة على الحكومات العراقية ما زال مستمراً حتى اليوم، وبالتالي لا يمكن التذرع بأن في العراق حكومات تعارض سياسات الغرب، مع ذلك لم تأتِ الاستثمارات التي وعد بها العراق لبدء عملية إعادة الإعمار، والذي حدث في العراق هو عكس ذلك. توزعت الشركات الغربية الاستثمار في حقول النفط، ولم تلتزم بإعادة إعمار المرافق التي تهدمت أثناء الاحتلال, ولاسيما المرافق الخدمية، مثل الكهرباء والماء، وبعد مرور حوالي 15 عاماً على الاحتلال الأميركي، وعلى الرغم من أن العراق دولة ذات عائدات نفطية مرتفعة، إلا أن الكهرباء والماء لا تصلان إلى المدن الرئيسية في العراق مثل مدينة البصرة، حيث كان نقص الخدمات سبباً لانتفاضات وحراك شعبي متواصل.
هذه الوقائع تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك أن الحكومات الغربية لا تساعد في عملية إعادة الإعمار حتى لو كانت الحكومات في البلدان المعنية تابعة للغرب، وتستخدم ذريعة ربط الإسهام في عملية إعادة الإعمار بشروط فرض الإملاءات الغربية فقط لإحكام هيمنة الدول الغربية على بعض الدول التي ترفض الهيمنة متذرعة بحاجة هذه الدول إلى مساعدة الغرب في عملية إعادة الإعمار، ولكن التجارب التاريخية تؤكد أن الغرب لا يساهم على الإطلاق في عمليات إعادة الإعمار, وتقتصر مساهمته على نهب الموارد المربحة في البلدان المعنية، وبالتالي حرمان هذه البلدان من مصادر حيوية يمكنها أن تساهم بعملية إعادة الإعمار وطنياً وبجهود ذاتية.
ما تقدم يعني أن الدولة السورية أثناء عملية إعادة الإعمار غير معنية على الإطلاق بالادعاءات الغربية والشروط التي تضعها الحكومات للإسهام في عملية إعادة الإعمار ومواقف الحكومات الغربية التي ترفض التعاون لن يؤثر على عملية إعادة الإعمار, بل ربما يكون استنكاف الحكومات الغربية عن المساهمة في هذه العملية يفسح المجال أمام دولٍ أخرى تقبل بالمساهمة في هذه العملية بشروط أقل سلبية وأقل نهباً لموارد سورية عبر شراكات عادلة لا تقبل بها الحكومات الغربية عادةً.
بكل تأكيد لو لم تكن هناك عقوبات اقتصادية على سورية، ولو لم تكن هناك معارضة لعملية إعادة الإعمار من قبل الحكومات الغربية لكان تدفق الاستثمارات الخارجية من دول عديدة ترغب المساهمة في عملية إعادة إعمار سورية, أيسر وأسهل, ولكن في موازاة هذا الجانب السلبي، هناك جانب إيجابي لمقاطعة الغرب لعملية إعادة الإعمار، ويتجسد في واقع أن الدول الأخرى، مثل روسيا والصين وربما شركات غربية، سوف تساهم بعملية إعادة الإعمار من دون نهب ثروات سورية في المرافق والموارد التي تدر أرباحاً سريعة، ولاسيما في قطاع النفط والغاز.