إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (17) حميدي العبدالله
سادساً، الصناعات التكنولوجية وصناعة الهاي تك. لاشك أن سورية قبل الحرب لم تسجل تقدماً كبيراً في الصناعات التكنولوجية وصناعة الهاي تك. المقصود بهذه الصناعة «هي التقنية المتواجدة في الوضع الأكثر تقدماً حالياً، ويتطرق المصطلح في كثير من الأحيان للصناعات المتعلقة بعالم الحوسبة، ولكنه يشمل أيضاً الإلكترونيات، البيوتكنولوجيا ومجالات أخرى». وتشمل هذه الصناعات قطاعات مثل الطيران والسيارات، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الحيوية، والبرمجيات، والهندسة الكهربائية ونظم المعلومات، والضوئيات، وتكنولوجيا النانو، والفيزياء النووية والروبوتات والاتصالات السلكية واللاسلكية، وحتى في مجال العمارة، مثل الأطر والكسوة المعدنية، والمنسوجات والمواد المركبة.
واضح أن الصناعة التكنولوجية وصناعة الهاي تك تدخل في مركب يشمل كل فروع الاقتصاد، سواء كان الاقتصاد الإنتاجي، مثل الصناعة والزراعة، أو القطاع الثالث، أي قطاع الخدمات، أو الفرع الجديد وهو اقتصاد المعرفة، إذ من المعروف أن اقتصاد المعرفة بات فرعاً هاماً من اقتصادات كل الدول المتقدمة، وله مؤشر أسهم خاص به هو مؤشر «نازداك» وثمة ما يشبه الإجماع على أن الدول الصناعية التي تحرز تقدماً تكنولوجياً في المجال الصناعي هي الدول الأقوى اقتصادياً، وتنبع قوة هذه الدول من زيادة الطلب على منتجات التكنولوجيا الصناعية، وليس من باب الصدفة أن يتحول اقتصاد المعرفة إلى قاطرة الاقتصاد الأميركي, بل إن كثير من الدول النامية اعتمدت في نهوضها الاقتصادي، وتبوأت مكانة جديدة من خلال اعتمادها على صناعة التكنولوجيا وصناعة الهاي تك، وهنا يمكن الإشارة إلى دول مثل الهند حيث يلعب «وادي بنغالور» دوراً مهماً ويسعى إلى أن يكون هذا الدور بمستوى الدور الذي لعبه وادي السيليكون في الولايات المتحدة في نهوض قطاع الصناعات التكنولوجية وصناعة الهاي تك.
لا شك أن بلوغ مستوى متقدم في هذه الصناعات ينطوي على مفارقة ، فامتلاك هذه التكنولوجيا من ناحية صعب للغاية، ومن ناحية أخرى سهل جداً، فهذه التكنولوجيا تعتمد على المعرفة والإبداع, والخبرات، وهذا هو وجه الصعوبة بها، ولكنها من ناحية أخرى لا تحتاج إلى أموال واستثمارات كثيفة، فيمكن أن تنهض بسرعة وبقدرات محدودة إذا توفر الشرط الأول.
وعلى الرغم من أن الدول المتقدمة تفرض حصاراً محكماً وتعرقل عملية انتشار صناعات الهاي تك والتكنولوجيا، إلا أن تجارب دول كثيرة بينها إيران تشير إلى أنه مهما بلغت قوة الحصار المفروض، فإذا كان هناك تخطيط من قبل الحكومات وتصميم على تحقيق إنجازات في هذا المجال فإن ذلك ممكن وبسهولة، ويمكن نهوض صناعات هذا القطاع بأيدي وخبرات محلية. لقد شهدت تكنولوجيا النانو، وصناعات أخرى ازدهاراً ملحوظاً في إيران، وحتى دول أصغر مثل ماليزيا، وتشير هذه التجارب إلى أن التوجه إلى التركيز على هذا القطاع أثناء عملية إعادة إعمار سورية ليست طموحاً خيالياً، وليست محاولة للقفز فوق الواقع، فسورية تمتلك مقومات وقدرات موضوعية لانطلاق صناعة حقيقية في هذا القطاع على الرغم من التحديات الكثيرة التي تواجه سورية.
سورية في مرحلة إعادة البناء تمتلك قدرات تتلخص بــ:
أولاً، توفر عقول وخبرات وأيدي عاملة للنهوض بهذا القطاع. فحتى أثناء الحرب شهدت بعض الجامعات إنتاج روبوتات واختراعات أخرى تنتمي إلى صناعة الهاي تك وصناعة التكنولوجيا، وهذا يؤكد أن لدى سورية خبرات واعدة على هذا الصعيد، إذا أحسن توظيف هذه القدرات فيمكن أن يكون لسورية قطاع صناعي في الصناعة المتقدمة يكمل نهضتها الصناعية في القطاعات الأخرى ويساعد على تطويرها للارتقاء بأدائها.
ثانياً, حلفاء سورية، والدول الصديقة مثل إيران والصين، يمكنها أن تساعد سورية في هذا المجال، ومجالات المساعدة كثيرة سواء كان ذلك في نقل الخبرات, أو استقبال البعثات البحثية، أو حتى بناء فروع لشركات مختصة في هذه الصناعات داخل سورية، ولكن ذلك لن يتحقق من تلقاء ذاته، فإذا لم تكن لدى الدولة السورية خطةٌ واضحة لاستقطاب الكفاءات وتوفير البيئة الملائمة لانطلاق هذه الصناعات، وبذل جهد لتوجيه الاستثمارات إلى هذا القطاع، فإن إمكانية نهوض صناعات هاي تك سيكون أمراً صعباً وسيتوقف الأمر على المبادرات الفردية على النحو الذي كان عليه الحال قبل الحرب.
ثالثاً، سورية، شأنها شأن الهند والصين وإيران، تمتلك ميزةً تساعدها على بناء هذا القطاع الهام من الصناعة، والمقصود بذلك العمالة الماهرة ولكنها العمالة الرخيصة. معروف أن ميزة وادي بنغالور في الهند يعتمد على هذا العامل، أي توفر عمالة ماهرة ولكن بأجر لا يمكن مقارنته بالأجر الذي يتقاضاه العمال المهرة في وادي السيليكون في الولايات المتحدة، ولذلك باتت الشركات العاملة في هذا القطاع، ومن أجل تعزيز قدراتها التنافسية تبحث عن الأماكن التي تتوفر فيها الأيدي العاملة الماهرة, ولكن أيضاً الرخيصة التي تجعل كلفة السلعة المنتجة أقل من كلفتها في الدول المتقدمة.
يمكن لسورية في إطار خطط إعادة إعمار توظيف هذه الميزة لاستقطاب استثمارات وتوجيهها نحو هذا القطاع، ولكن ذلك يتطلب أن تدرك الجهات المعنية أهمية هذه الصناعة ودورها التقدّمي والريادي، والاقتناع بأن كل فروع الاقتصاد السوري الأخرى, إذا لم تنهض صناعة وطنية في هذا المجال ستكون مرتبطة باحتياجات يجري استيرادها من الخارج مع ما يرتبه ذلك من تأثيرات سلبية على الميزان التجاري وميزان المدفوعات وتبديد للعملة الصعبة والضغط على العملة الوطنية.
مطلوب من خطط إعادة الإعمار في سورية أن تلحظ في مخططها التوجيهي على صعيد إعادة إنهاض قطاع الصناعة دوراً بارزاً لصناعات الهاي تك والصناعات التكنولوجية، ولا بد أن يتجلى ذلك أولاً من خلال استعادة وإحياء ما كان قد تحقق في سورية قبل الحرب. صحيح أن الإنجازات في هذا القطاع هي إنجازات متواضعة, ولكن الصحيح أيضاً أن العاملين في هذا القطاع والمؤسسات التي بنيت تمتلك خبرة ومهيأة أكثر من أي جهة أخرى لإطلاق مسيرة نهوض هذا القطاع بعد إعادته إلى ما كان عليه قبل الحرب. وبعد ذلك يصار إلى بناء مؤسسات جديدة أكثر طموحاً وأكثر قدرة وفعالية في تقديم منتجات تساعد فروع الاقتصاد المختلفة التي تحتاج إلى مخرجات الصناعات التكنولوجية.
ظروف سورية الصعبة وتعدد أولوياتها في عملية إعادة الإعمار نتيجة هذه الحرب الشاملة التي استهدفت بالدرجة الأولى تخريب الاقتصاد، لا تشكل مبرراً لإهمال قطاع صناعات الهاي تك والصناعات التكنولوجية، مثلاً ثمة مصانع في الضفة الغربية التي ترزح تحت نير الاحتلال قد نهضت واحتلت مكانة هامة، ولن يكون وضع سورية في مرحلة إعادة الإعمار أصعب من الوضع القائم الآن في الضفة الغربية من فلسطين المحتلة.