هل تفوت اوروبا الفرصة؟
غالب قنديل
التردد والانفصام هو أقل ما يمكن ان يوصف به السلوك الأوروبي اتجاه التحولات العالمية الكبرى في مناخ الاستقطاب والمواجهة بين الولايات المتحدة وقوى الشرق الصاعدة وهو ما برهنت عليه التجارب حتى اليوم وبصورة خاصة منذ انسحاب الإدارة الأميركية من الاتفاق النووي الإيراني.
لم تتردد روسيا والصين وإيران في تقديم الحوافز الاقتصادية والمالية والسياسية للثلاثي الأوروبي المقرر بريطانيا وفرنسا وألمانيا واطلقت الدول الشرقية الثلاث مبادرات متلاحقة لتعزيز الشراكة مع اوروبا دون ان تلاقيها دول الغرب الأوروبي بما تتوقعه من حماس وتجاوب وظلت خطواتها عالقة في منتصف الطريق كذلك ظهر التردد على شركات غربية كان من المفترض انها متلهفة لفرص الدخول إلى الأسواق الواعدة في إيران فيما تخشى الضغوط والكوابح الأميركية التي سبق ان لجمت استثماراتها مع إيران قبل الاتفاق وبعده.
في الظاهر تعلن العواصم الأوروبية رغبتها في بناء منظومة تعامل مصرفية وتجارية مع إيران خارج العقوبات الأميركية وتجاهر بتصميمها على حماية شركاتها الوطنية التي ستنفذ مشاريعا في إيران وواقعيا تسير تدابيرها سلحفاتيا وتبدو بطيئة ومتلعثمة بل إن العديد من الشركات الأوروبية تقف واجفة عن تنفيذ التزامات وعروض تقدمت بها في السابق رغم علمها ان إيران لديها بدائل جاهزة من الصين والهند وروسيا وهي مهيأة تقنيا وماليا للوفاء بتعهداتها وقد قدمت الاتفاقات الأخيرة التي وقعتها إيران مع الهند وما فيها من شراكة نفطية وصناعية وإنشائية إقليمية نموذجا للفرص المتاحة التي تبني عليها وتستثمرها إيران دون انتظار نهاية التردد الأوروبي.
طبعا الاتفاق الإيراني الأخير مع الهند يعقب اتفاقات مالية ونفطية مع باكستان ويستكمل الاتفاقات العملاقة السابقة بين إيران وكل من روسيا والصين والتي شملت مجالات عديدة واعدة ونامية اقتصاديا وبخطوط مالية خارج هيكلية النظام المصرفي الأميركي المشمول بالعقوبات وقد رست دورة تجارية ومالية واستثمارية داخل هذا التكتل الشرقي في العديد من المجالات المتشعبة دون إدارة الظهر للغرب أوسد أبواب الفرص التي يهددها التردد الأوروبي.
بينما تهتم الإمبريالية الأميركية بمطاردة النفوذ الإيراني في الشرق العربي انطلاقا من محورية علاقتها بالكيان الصهيوني كمركز لمنظومة الهيمنة الإقليمية ركزت إيران على ترسيخ شراكات وعلاقات في قلب آسيا تعزز من سطوتها ومكانتها الاقتصادية والسياسية ويمكن القول إن شركاءها المتزايدين من دول غرب ووسط آسيا وشرقها يمثلون كتلة من الشركاء الذين تربطهم بإيران مصالح استثمارية ونفطية وتجارية وتقنية تترسخ باضطراد.
بالمقابل فإن الشراكة الإيرانية مع سورية والعراق باتت من ثوابت المشهد الإقليمي لاتنفع معها التهديدات الصهيونية والعربدات الأميركية بينما يختار الأوروبيون الشراكة مع الولايات المتحدة في العدوان على سورية والعراق واليمن وسيكون مصير نفوذهم مشمولا بهزيمة قادمة لقوات الاحتلال الأميركية طال الزمان ام قصر.
الخنوع والتردد في السلوك الأوروبي له جذوره وأسبابه المتصلة بارتباط النخب الحاكمة بمجموعات مالية واقتصادية قامت على قاعدة الهيمنة الأميركية التقليدية منذ مشروع مارشال بعد الحرب العالمية الثانية الذي عزز سطوة بيوت التمويل الأميركية على النخب الأوروبية الحاكمة وداخل الاقتصاديات الأوروبية.
في قلب النسيج الاقتصادي والمالي والسياسي للنخب الأوروبية الحاكمة نفوذ امني وعسكري اميركي انتجته الشراكة الأطلسية المديدة في زمن الحرب الباردة وحتى اليوم فإن جميع العقائد الدفاعية الأوروبية تابعة لمراكز التخطيط الأميركية وتمثل القوات الأميركية المشاركة في الناتو على البر الأوروبي جزءا رئيسيا من البنيان الدفاعي الباقي على حدية استقطاب العداء لروسيا.
بعدما جرجرتها واشنطن خلفها في الحروب الخاسرة التي خاضتها على أرض الشرق تقف اوروبا المترددة على المفترق بين ان تخوض معركة أميركية خالصة للدفاع عن نظام الهيمنة الأحادية في العالم او الانضمام إلى الجهود الروسية الصينية الإيرانية والهندية لإقامة نظام بديل متعدد الأقطاب والبوابة المفتوحة للفرصة الذهبية هي بالذات اختيار الشراكة مع إيران وحمايتها بقوة رادعة اقتصاديا ومصرفيا من العقوبات الأميركية وهذه الحلقة هي التي ستكون المؤشر الحاسم على حقيقة الخيار الأوروبي.