قضية خاشقجي وتوظيفاتها المتعددة: وليد شرارة
لا شك في أنّ وحشية ووقاحة الجريمة التي ارتكبها النظام السعودي بحق مواطنه جمال خاشقجي، وهي جريمة علنية بكل ما للكلمة من معنى تكاد تكون وقعت أمام الكاميرات، تفسران جزئياً قوة استنكار قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي لها. لكن تحولها إلى قضية دولية بامتياز بفعل مواقف السياسيين الأوروبيين والأميركيين وقراراتهم حيالها واحتلالها صدارة أخبار المؤسسات الإعلامية الغربية يرتبط بتوظيفها الأيديولوجي والسياسي من قبل هؤلاء وغيرهم كالرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هي باتت جزءاً لا يتجزأ من استراتيجيات سياسية ولم تعد مجرد قضية إنسانية أو أخلاقية. «الضمير العالمي» الذي يعتقد البعض أنه استيقظ نتيجة هول الجريمة لا وجود له إلا في مخيلاتهم الخصبة، وتأثيره والقيم الأخلاقية في السياسة الدولية هو بقدر تأثير الموسيقى أو الشعر عليها. نحن أمام قضية، في السياق العالمي الحالي، من نمط القضايا القابلة للاستخدام من قبل قسم وازن من القوى المسيطرة لإنفاذ أجنداتها وتصفية حساباتها وممارسة الابتزاز، وستكون لها تداعيات على الفريق الحاكم في السعودية أولاً، وعلى إدارة ترامب بدرجة أقل .
التوظيف الأيديولوجي للقضايا «السهلة»
ما زال تعريف ونستون تشرتشل، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، للنظام الديموقراطي، الذي أطلقه في 11 تشرين الثاني عام 1947، هو التعريف الأكثر رواجاً حتى الآن بين نخب الحكم، الموجودة في السلطة أو المعارضة، في الغرب. بحسب هذا التعريف، الذي عاد رئيس الوزراء الفرنسي الأسبق مانويل فالس التذكير به عام 2016 مع بداية حملة الانتخابات الرئاسية الفرنسية آنذاك، فإن «الديموقراطية هي أسوأ الأنظمة، باستثناء جميع الأنظمة الأخرى». تفضّل الرأسماليات البرلمانية أن تقدم نفسها، لشعوبها ولبقية شعوب العالم، عبر هذا التعريف بالسلب، «نظامنا هو الأقل سوءاً»، أمام تفاقم التناقضات والصراعات وتعاظم الفوارق الاجتماعية والمظالم الناجمة عن سياساتها وآليات عمل نظامها أساساً. هو من المرتكزات الأيديولوجية الرئيسية لسردية الرأسماليات عن نفسها الهادفة لاكتساب الشرعية عبر خفض سقف مطالب وتطلعات الشعوب وإحالة نظرها نحو البلدان الغارقة في الكوارث والحروب أو تلك القابعة في ظل أنظمة مستبدة دموية لتصل إلى الاستنتاج الذي يفرض نفسه وهو أنها في نعيم مقارنة بغيرها. لم تكن مصادفة أن يكون تشرتشل هو من قدّم هذا التعريف. فالرجل الذي ينظر إليه في الغرب باعتباره أحد أبرز مهندسي الانتصار على النازية مرادف الشر المطلق في الخطاب الغربي السائد، من كبار المجرمين بحق الإنسانية من منظور القانون الدولي نفسه، فهو أشرف على تنظيم إحدى أكبر المجاعات التي عرفتها الهند، وأدت لموت الملايين لكسر حركتها الوطنية المطالبة بالاستقلال وأمر بعمليات قمع وحشية ضد شعوب العراق وفلسطين والسودان وعارض حتى الرمق الأخير منح شعوب المستعمرات حق تقرير المصير. لقد أدرك السياسي البريطاني المحنك، بعد تجربته الطويلة على رأس هرم السلطة، أهمية مثل هذه التعريفات في توفير مرتكزات أيديولوجية وفكرية للإجماع الداخلي، حتى ولو كان رخواً، ليستطيع التفرغ لسياسات السيطرة والنهب في الخارج.
تحتاج الرأسماليات البرلمانية اليوم أكثر من السابق إلى إعادة الاعتبار إلى شرعيتها المهتزة نتيجة لأزماتها الاجتماعية والسياسية وصعود تيارات اليمين المتطرف، المرتبطة جميعها بالعولمة النيوليبرالية وبتحولات موازين القوى العالمية الاقتصادية والاستراتيجية وبروز أقطاب منافسة غير غربية. ما زال المنطق العميق للسردية الغربية هو نفسه: نحن أفضل الموجود وخارج أسوارنا أنواع متباينة ومتفاوتة من البربرية. تتلقف أجهزة الدعاية الأيديولوجية للرأسماليات من حين إلى آخر قصص وحوادث تعزز صدقية مزاعم التفوق الحضاري والأخلاقي لنموذجها على ما عداه: فتاة متمردة قام أهلها المتعصبون بقتلها، معارض ديموقراطي يفضّل أن يكون روسياً أو صينياً تعرض للاغتيال أو للسجن والتعذيب، كلاب أليفة تطبخ وتؤكل، إلخ… أما الملايين من ضحايا استباحتها لبقاع واسعة من جنوب العالم، بمن فيهم أولئك الذين يغرقون أمام شواطئ أوروبا التنوير وحقوق الإنسان، فمآلهم غياهب النسيان. صحيح أنهم ليسوا من كتّاب «واشنطن بوست» وليست لديهم صلات وثيقة بالخارجية الأميركية أو بالكونغرس. قضية خاشقجي، بعد أن فرضت نفسها في الفضاء الإعلامي العالمي بفضل تسريب تركي مدروس ومستمر وتبنّ من أوساط سياسية نافذة في الغرب وتركيا، أصبحت من القضايا «السهلة» التي توظف لمصلحة تعزيز صدقية مزاعم دفاع الغرب عن حقوق الإنسان وحرية التعبير.
أردوغان والانتقام البارد
«الانتقام» وفقاً للمثل الفرنسي الشهير، «طبق يؤكل بارداً». أخطأت التحليلات التي استخفت بمدى حدة المواجهة بين المحور السعودي – الإماراتي، التي انضمت إليه مصر بعد انقلاب تموز 2013، والمحور التركي – القطري الذي دعم ورعا وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة من طريق الانتخابات في تونس ومصر. لقد امتدت ساحة المواجهة بين المحورين لتشمل تونس وليبيا ومصر واليمن وحتى سوريا، حيث انعكس الصراع بينهما صراعاً بين فصائل المعارضة السورية فاق في بعض الأحيان عنف صراعها مع الجيش وحلفائه. وقد وصلت هذه المواجهة إلى أوجها مع تورط الإمارات العربية المتحدة والسعودية في المحاولة الانقلابية ضد الرئيس التركي في حزيران 2016، إلى جانب الولايات المتحدة، وانفجار الأزمة مع قطر التي كادت أن تفضي، بحسب معلومات أكيدة، إلى اجتياح الإمارة من قبل السعودية. ومما زاد من حدتها هو انحياز الولايات المتحدة، خصوصاً بعد وصول ترامب إلى السلطة، للمحور السعودي – الإماراتي – المصري وتدهور علاقاتها مع تركيا التي أصبح البعض ينظر لها، بعد التطور الكبير الذي طرأ على علاقاتها مع روسيا وإيران والصين، كطابور خامس داخل حلف «الناتو». راهن أردوغان على أن تتحوّل تركيا إلى قطب إقليمي يرعى ويشرف على عمليات التغيير السياسي في المنطقة التي تبلور في تلك الفترة اعتقاد أنها حتمية، بالتفاهم والتعاون مع القوى الدولية. لكن المحور المقابل نجح بإفشال هذا التغيير بالتحالف مع غالبية قوى النظام القديم في مصر وتونس وحصل على دعم واشنطن باعتباره شريكها الإقليمي الأساسي إلى جانب إسرائيل. جريمة ابن سلمان بحق خاشقجي ومفاعيلها السياسية والإعلامية الكارثية عليه وعلى فريقه فرصة لا تفوّت لأردوغان لتهشيم صدقيتهم أمام القوى الغربية وإثبات عقم رهانها على السعودية كقطب إقليمي حليف والعودة للعمل مع قوة إقليمية كبرى ومسؤولة كتركيا.
هذا هو الهدف الرئيسي لأردوغان قبل أية أهداف أخرى من نوع الحصول على استثمارات أو على دعم لليرة التركية أو ما شابه. وهو شكّل الدافع الرئيسي لقيام تركيا بكشف ملابسات الجريمة التي لولاها ما تحوّل مقتل جمال خاشقجي إلى قضية.
إرباك ترامب
القوى الغربية الأخرى، أميركية أو أوروبية، أرادت بمعظمها عبر تبنّيها لقضية خاشقجي إرباك الرئيس الأميركي من طريق إدانة حليفه محمد بن سلمان ووضعه في موقع حرج سياسياً وإعلامياً، خصوصاً مع اقتراب الانتخابات النصفية في تشرين الثاني المقبل. جريمة ابن سلمان هي أيضاً فرصة ذهبية لبعض الأوروبيين، كألمانيا، الذين يعانون من سياسات ترامب وقراراته، وللحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة للإضرار قدر المستطاع بسمعته، صديق وشريك لقتلة دمويين، ولصحة خياراته الاستراتيجية، أي التحالف مع فريق أرعن يقود السعودية اليوم.
أدى تضافر هذه الاعتبارات السياسية والأيديولوجية إلى تحوّل عملية قتل وحشية تشهد بلداننا للأسف ما يماثلها أو ما هو أبشع منها يومياً، إلى قضية دولية ستوظّف لخدمة أجندات لا علاقة لها بالمثل والقيم التي يستذكرها القيمون على حملة استنكار الجريمة اليوم.
(الاخبار)