مبالغة في التوقعات
غالب قنديل
لاشك ان قضية اختفاء الصحافي جمال خاشقجي وقتله داخل القنصلية السعودية في اسطنبول تحولت إلى قضية عالمية دارت من حولها حركة سياسية وإعلامية كثيفة دوليا وإقليميا وليس محرك التفاعلات مدى الاهتمام والحساسية لدى الرأي العام في التعامل مع فظاعة جريمة القتل وما نقل عنها فحسب بل كذلك محورية موضوع متصل بها عضويا هو مستقبل العلاقة الأميركية السعودية.
أولا ظهرت مبالغات كبيرة في توقع النتائج والانعكاسات التي سترتبها الجريمة على قوة العلاقة الأميركية السعودية ومتانتها وهي تستند إلى ردود فعل غاضبة ظهرت داخل الولايات المتحدة تبنتها مجموعات فاعلة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي تدعو لوقف الصفقات العسكرية المخصصة لتسليح السعودية أو لفك مشاركة الولايات المتحدة في حرب اليمن ناهيك عن الكلام الكثير بصدد تحقيق دولي في جريمة الاحتجاز والقتل التي جرت داخل مقر دبلوماسي سعودي.
من الواضح في معاينة تعاقب الأحداث أن الإدارة الأميركية قدمت رعايتها المباشرة في السعي لإخراج المملكة من زاوية محشورة وخانقة بعد افتضاح الجريمة وتدحرج الروايات التي كشفت ارتباكا هستيريا خطيرا زاد الشبهات وشكلت جولات بومبيو وزير الخارجية وتصريحات الرئيس دونالد ترامب والرئيس التركي أردوغان والبيانات التركية المتلاحقة تعبيرا عن استثمار اميركي تركي للجريمة ولتفاعلاتها في بيع خدمات تصنيع المخرج الدبلوماسي والإعلامي الذي يحصر الأضرار السعودية ويحصر المسؤولية الجرمية في ملاكات ما دون ولي العهد الأمير محمد بن سلمان الذي يعتبر الآمر الناهي منذ تسميته بتزكية اميركية صريحة.
ثانيا من البلاهة الاعتقاد بأن واشنطن تقيم وزنا لحياة أي صحافي او لحياة الصحافيين ومصائرهم كائنا ما كانت جنسياتهم أو درجة ارتباطهم بها كحالة الخاشقجي وقد سبق للولايات المتحدة ان برهنت بتجارب دامية ومريرة عن تورطها في عمليات قتل كتاب ومراسلين كما جرى خلال غزوها للعراق بينما تلوح شبهات في العالم كله عن تورط استخباراتها المركزية بجرائم ضد كتاب وقادة رأي يعارضونها في مختلف البلدان.
اكذوبة الحرية التي يجترها ويلوكها الساسة الأميركيون تكذبها وقائع عديدة كانت آخرها خرافة الربيع العربي والحرب على سورية التي بنيت على الكذب والتلفيق ومن يرد قائمة بالمواضيع التي يمنع النظام البوليسي الأميركي تداولها في الإعلام الأميركي نفسه يستطيع مراجعة ما نشر في الولايات المتحدة عن الممنوعات خلال الحروب بأمر من البنتاغون وبرقابة عسكرية مسبقة.
كذلك يمكن العودة للعديد من المؤلفات الصادرة في واشنطن عن مظالم الصحافة الحرة وارتهان الشركات الإعلامية للوبيات السلاح والمخدرات وتبييض الأموال وغيرها ومنها كتاب اللائحة السوداء ( BLACK LIST ) الذي صدر عام 2002 وقد نسقت فيه كريستينا بورجيسون خمس عشرة شهادة لكبار الإعلاميين الأميركيين حول وجوه الصمت المفروض على الإعلام الأميركي .
ثالثا شكلت جريمة قتل الخاشقجي مناسبة لتصعيد مواسم الابتزاز والحلب المالي التي دشنتها رئاسة دونالد ترامب بكل صلافة في مسار العلاقة الأميركية السعودية وهو فعليا لم يبدل سوى في طريقة تقديم الأولويات ورسم الأهداف جهارا بعدما كانت الصفقات تطبخ خلال العهود السابقة في الكواليس عبر القنوات الدبلوماسية والأمنية فصارت موضوعا متداولا امام العدسات وعلى الهواء مباشرة.
تقديم الحماية السياسية والمعنوية للملكة بعد انكشاف الجريمة والاعتراف بها سيكون لقاء مقابل ضخم ستذعن المملكة لدفعه بعد رضوخها لآليات الإخراج الأميركي التركي التي عرضت عليها ومباشرة تكيفها معها سياسيا.
ابتكر الحليفان اللدودان للمملكة (تركيا والولايات المتحدة ) مناسبة للمصالحة وتأكيد الشراكة بينهما من خلال الإفراج عن القس برانستون البند الأكثر تفجرا في العلاقة الثابتة التي يدعمها تصميم انقرة على التقيد بضوابط كثيرة ناشئة عن علاقتها بواشنطن وعضويتها المستمرة في الناتو منذ عقود رغم المصالح الحساسة التي تربطها بروسيا وإيران بعد فشل خططها لتدمير الدولة السورية وأخونتها بالمشيئة الأميركية.
رابعا لاسند واقعيا للمبالغة في توقع رد الفعل الغربي بالسيناريوهات المعممة عن “معاقبة ومحاسبة” فمكانة المملكة السعودية كنظام شريك في منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية ما تزال رئيسية وهامة ليس فقط لاعتبار حجم مواردها النفطية وقدراتها المالية بل لدورها السياسي المحوري في مجابهة إيران ومحور المقاومة الذي سجل نقاطا كثيرة ضد محور الهيمنة الذي تقوده الولايات المتحدة ولعل النتيجة القصوى المحتملة ان تعيد واشنطن ترتيب اوراق الحكم السعودي بتقديم أوتأخير بعض أفراد من العائلة الحاكمة كما حاول بعض الكتاب الاستدلال من إيفاد الأميرخالد الفيصل إلى انقرة للتنسيق.
المأزق الذي تواجهه المملكة هو فرصة مواتية لإحكام القبضة الأميركية على قرارها السياسي باستثمار ما تواجه على صعيد تدهور السمعة السياسية والإعلامية وهو ليس اعظم ولا اكبر مما لحق بها نتيجة مذابح اليمن المتواصلة وحيث توسعت تفاعلات المجازر والمجاعة وكارثة الأطفال اليمنيين فاستثارت قطاعات واسعة من الرأي العام الغربي دون ان يرف جفن للحكومات التي استثارتها روائح الابتزاز المالي في تخريج قتل الخاشقجي وهذا سر الأصوات التي ارتفعت من باريس ولندن وبرلين لا أكثر ولا أقل كأنما تصيح حكوماتها للمسؤولين الأميركيين والسعوديين : لاتنسونا نريد حصتنا او نرفع سقوف الكلام.