كلام مستحق في مخاض التشكيل
غالب قنديل
التطاحن والتزاحم السياسي على “الحقائب الدسمة” هو السمة الغالبة على مخاض تشكيل الحكومات منذ عام 1943 ومن يومها كانت خيوط النفوذ الأجنبي والإقليمي هي الشبكة الحاضنة للواقع السياسي اللبناني الذي يستنفر بحثا عن المخارج بصدور الإشارة التي تبدلت مصادرها على إيقاع تبدلات مواقع النفوذ والتأثير الدولية والإقليمية وهكذا فالنظام القائم على تسويات محلية كان دائما محكوما بالتجاذبات والمعادلات والتوافقات الدولية والإقليمية .
ما يستوقف المتابع هي بعض الملامح المشتركة في مخاض تشكيل الحكومات والتعبير عن التوازنات والمعادلات التي غالبا كانت ولا تزال نتيجة مساكنة متجددة استعصى كسرها في المحيط رغم أشرس الحروب والغزوات في سياق الصراع المتجدد بين محور الهيمنة الاستعمارية الغربية الصهيونية وأدواته الإقليمية ومحور الاستقلال والممانعة الإقليمي الدولي المناهض للهيمنة وطوال عشرات السنين كان هذا المحور قائما فمرة شهدناه بقيادة مصر عبد الناصر ومرة كان بزعامة سورية ومن ثم حاصل شراكة إيرانية سورية او كما هو اليوم حلف يمتد من موسكو وبكين وطهران إلى دمشق.
أوجدت منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية في المنطقة مواقع نفوذ لها في لبنان من زمن بعيد وتوسعت وتداخلت في التركيبة اللبنانية بمصالح متشعبة وراسخة الجذور في بنية النظام الذي قام تحت الهيمنة الغربية ممنوعا من تخطي حدود سوق الاستهلاك الخاضع كليا وهو ما تجسد بمحورية القطاع المصرفي الممنوع من اختراق سقوف الهيمنة الاستعمارية الصهيونية والشاهد في كسر وإسقاط مشروع شركة انترا التي شكلت محاولة شهابية لاستثمار فورة النفط الخليجية الأولى وكذلك في تركيبة الوزارات وهيكليات الدولة.
في جميع الحقب الإصلاحية التي شهدت تعديلات طفيفة في بنية النظام بما في ذلك اتفاق الطائف لم تتخط التغييرات حدود القشرة السياسية في جراحتها الهيكلية وتركزت على ترسيخ النظام الطائفي التابع للهيمنة وتجديد بناه بإعادة رسم مواقع النفوذ وحتى العهد الشهابي الذي يحكى عنه الكثير كمحاولة جدية لتحديث الدولة قدم صيغة متقدمة في هذه الحدود فهو مثلا لم يتخط محورية قطاع الخدمات ولم يضع مشروعا للتنمية محررا من التبعية يعتمد تنمية مصادر الثروة الوطنية ويتبنى وضع الصناعة والزراعة في مقدمة الأولويات واتخذ مبادرات غير مكتملة اخضعت فيما بعد لقواعد المحاصصة والتقاسم الطائفي والسياسي.
لكن قدمت الشهابية نظاما للتعليم العام ونظاما صحيا عاما ترعاهما الدولة والمفارقة السوريالية انه جرى تدمير كل خدمة عامة في البلد لصالح المشروع الأميركي الذي اطلق الخصخصة الطائفية بعد حرب السنتين ومذكرة الخارجية الأميركية “نهاية عهد الأمراء” في زمن الرئيس الراحل الياس سركيس الذي كان آخر من تبقى من الرعيل الشهابي. واليوم نشهد نظام تقاسم طائفي متوحش تخطى حدود ما نص عليه اتفاق الطائف الذي حصر طائفية الوظائف بالفئة الأولى فانتقلنا إلى تطييف تعيينات الحجاب والمراسلين والنواطير وحراس الأحراش وهكذا وعلى قياس ما تتيحه كل وزارة من تعيينات وتنفيعات وخدمات خاصة توسع النفوذ السياسي لقوى النظام القائم أو ما تتيحه من عقد صفقات مع الشركات الغربية ترتفع اهميتها في نظر النادي السياسي الحاكم وهكذا تصنف الوزارة دسمة ام هامشية وهكذا تعامل الوزارة المهمشة بوصفها سقط المتاع الحكومي فيهرب منها الجميع.
لم يطرح أي حزب لبناني او تكتل نيابي أبدا برنامجا يشارك على أساسه في الحكومة الجاري تأليفها ولم يتقدم احد بتصور حول إصلاح هيكليات الوزارات ووظائفها وموازناتها وادوارها وآليات عملها وكنا سنرحب ونصفق لو ظهر من يبادر إلى طلب وزارة مهملة كالبيئة على أساس خطة شاملة لتنقية الأنهار والشواطئ وتعميم معامل تدوير النفايات والمجارير ووضع معايير حماية صحية شاملة وملزمة او كوزارة الزراعة مثلا على أساس خطة مرحلية لبرنامج ثورة خضراء تنقذ اخطر مواردنا المهددة والقابلة للتطور القياسي لو قادها برنامج علمي محكوم بالمصالح الوطنية لا بالمنافع الشخصية والسياسية.
النظام اللبناني القائم يحترف في بنيانه العثماني العميق إغراق الطموحات في روتين التصريف اليومي للأعمال في جميع الوزارات والمؤسسات حيث يحبط العقل الخلاق ويخنق وتخيب الآمال الكبرى بسبب عقم النظام ورسوخ التبعية والتقاسم وأمثلة من خابت آمالهم مخلدة في تاريخ النظام اللبناني كوزير الصحة الشجاع الراحل الدكتور إميل بيطار الذي خلعته احتكارات وكلاء شركات الأدوية الأجنبية وهذه الشبكة ما تزال قوة قابضة في القطاع الصحي بدليل تحريمها لأي تنمية جدية لصناعة الدواء ومنعها لاستيراد الدواء من مصادر متنوعة أقل كلفة وحظرها للشراكة في التصنيع والتسويق مع دول شقيقة وقريبة بذرائع شتى منها العقوبات الأميركية التي أشهرت استباقيا في وجه ترشيح وزير للصحة قد يسميه حزب الله.
وكذلك وزير المالية الإصلاحي الدكتور الياس سابا الذي اشتهر بالمرسوم 1943 فأسقطت محاولته الإصلاحية مافيا التجار في السبيعينات وما زالت تلك المافيا التي اندمجت بقوة مع الاحتكارات البنكية خلال العقود الماضية هي الكتلة الصانعة للسياسات الاقتصادية ومن بعده ظهر الخبير الإصلاحي الدكتور جورج قرم الذي يتندر بعض الساسة بأنه كان يحضر إلى مكتبه كل يوم وكتاب الاستقالة في جيبه.