إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (15) حميدي العبدالله
رابعاً، الصناعات الدوائية. في فترة ما قبل الحرب اشتهرت سورية، بعد الصناعات النسيجية والغذائية، بصناعة الدواء. وقد تم إيلاء هذه الصناعة بدايةً الاهتمام لاعتبارات أبرزها, أولاً، الحصول على حاجة سورية من الأدوية دون الاستيراد من الخارج، سيما وأن سورية عانت لفترة عقود من نقصٍ في العملة الصعبة، وبالتالي فإن توفير احتياجات السوريين من الأدوية عبر الاستيراد يعني نزيفاً إضافياً للعملة الصعبة، وهي نادرة الوجود بسبب ضعف التصدير في الاقتصاد السوري، وبسبب العقوبات التي فرضت على سورية من الحكومات الغربية منذ مطلع عقد الثمانينات، وتحديداً بعد رفض سورية لاتفاقات كمب ديفيد. كذلك جاء الاهتمام بالصناعة الدوائية من قبل الرئيس حافظ الأسد في سياق التركيز على القطاع الصحي, إذ من المعروف أن سورية حققت تقدماً كبيراً في هذا القطاع ونالت عليه ثناء منظمة الصحة العالمية. وكان من الصعب اكتمال عمل القطاع الصحي فقط من خلال انتشار المشافي والمستوصفات، بل إن عملية توفير الدواء كانت قضيةً هامةً وضروريةً وملازمةً للتقدم الذي تحقق في المجال الصحي. ثانياً، تصدير فائض الإنتاج إلى الأسواق الخارجية، وعملية التصدير كانت الحصة الأساسية فيها للقطاع الخاص, وقد تمكن القطاع العام والخاص من إنتاج أصنافٍ عديدة من الأدوية تغطي حوالي 90% من احتياجات السوريين بكلفة أهلت منتجات مصانع الأدوية السورية لإنتاج سلعٍ قادرة على الصمود في مضمار المنافسة في الأسواق الداخلية وفي الأسواق الخارجية، ونظراً لاستحواذ الصناعات الدوائية على الأسواق السورية بشكل كامل، والقدرة على المنافسة في الأسواق الخارجية، تمكن هذا القطاع من التوسع إلى درجة كبيرة، وباتت سورية دولةً مميزةً في صناعة الأدوية، على الأقل في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط.
بعد اندلاع الحرب تأثرت كثيراً صناعة الدواء لأن غالبية مصانع الأدوية شيّدت في ضواحي المدن الكبرى، والحرب الإرهابية دارت في هذه المناطق وتسببت بدمار عشرات المعامل، وإغلاق عشراتٍ أخرى لأسبابٍ متنوعة منها ما يتعلق بسهولة الحصول على المواد الأولية، أو العمالة، ومعروف أن العمالة في هذه الصناعة هي عمالة ماهرة وليست العمالة التي تتوفر بيسر في الأسواق، كما أن بعض المعامل جرى تفكيكها ونقلها إلى أماكن أخرى، ولكن هذه العملية أثّرت على قدرتها على تلبية طلب الأسواق في التوقيت والكمية المطلوبة، وبالتالي كان الضرر الذي لحق بقطاع صناعات الأدوية أكثر من أي قطاعٍ آخر باستثناء قطاع الغزل والنسيج.
اليوم عملية إعادة إعمار سورية تتطلب إيلاء هذا القطاع وإعادة بنائه أهميةً خاصة للأسباب ذاتها التي دفعت بالرئيس حافظ الأسد للتركيز على هذا القطاع وإيلائه أهمية خاصة، لجهة دور الدولة في بناء هذا القطاع ومستوى الاستثمار والتوظيف فيه، أو لجهة التسهيلات والدعم الذي يقدّم للقطاع الخاص، ولكن الحرب ومستقبل سورية القريب في مرحلة ما بعد الحرب أضاف أعباء جديدةً، إذ من المعروف أن الحرب تسببت بإصابة عشرات ألوف السوريين، ولاسيما من العاملين في مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، ويحتاج هؤلاء الجرحى أو بعضهم تلقي العلاج لفترات طويلة ويحتاجون أيضاً الحصول على الأدوية المناسبة بأسعار تتناسب مع مستوى دخولهم، في حين أن الأدوية المستوردة من الخارج كلفتها عالية على هؤلاء ولا يستطيعون توفيرها. كما أن الحرب وتراجع أداء القطاع الصحي عموماً كانت له انعكاساتٌ سلبيةٌ كبيرةٌ، حيث انتشرت بعض الأمراض, وتحديداً الأمراض النفسية التي تتطلب مواكبة باستعمال الأدوية لفتراتٍ مديدة، وبديهي أن بعض شرائح المجتمع لا تستطيع توفير احتياجاتها من الأدوية المستوردة نظراً لغلاء أسعارها، فضلاً عن أن إطلاق العنان للاستيراد من الخارج يقود إلى نزيف العملة الصعبة وبات رصيد سورية منها أقل بكثير مما كان عليه الحال قبل الحرب.
إن عملية إعادة إعمار قطاع صناعة الأدوية واستئناف عملية التصدير فضلاً عن أنه يسد احتياجات السوق المحلية والطلب المرتفع بسبب الحرب ونتائجها، فإنه في الوقت ذاته يساعد على ترميم رصيد سورية من العملة الصعبة، وينعكس ذلك إيجاباً على الميزان التجاري وميزان المدفوعات وتحسن سعر صرف الليرة السورية. نظراً لكل هذه الاعتبارات فإن الدولة السورية معنية بوضع إنهاض قطاع صناعة الأدوية، وتقديم الدعم له من ضمن أولوياتها. وعملية الدعم المطلوبة تعني مجموعة من الإجراءات أبرزها:
أولاً, تشجيع الاستثمار الخاص إضافة إلى الاستثمار الحكومي في هذا القطاع، لأن التوظيف في قطاع صناعات الأدوية، هو توظيف مربح، ويحقق نتائج سريعة، ولا يواجه إنتاج مصانع الأدوية أي أزمات أو اختناقات في تصريف الإنتاج، كما يحدث لقطاعات أخرى مثل صناعة النسيج وصناعات الأغذية، فجودة المنتج السوري في صناعة الأدوية التي اشتهر بها ورخص السلع المنتجة، جميعها تؤهل إنتاج هذا القطاع للاستحواذ على السوق الداخلي والمنافسة في الأسواق الخارجية، وبالتالي فإن الاستثمار في هذا القطاع غير محفوف بالمخاطر، مهما كانت طبيعتها وجدواه واضحة جداً، ولكن المطلوب أن تقوم الدولة بواجبها لجهة شرح الأسباب والعوامل التي تجعل الاستثمار في هذا القطاع عمليةً مجدية وبعيدةً عن المخاطر.
ثانياً، توجيه المصارف، العامة والخاصة، لتقديم القروض إلى صناعيي هذا القطاع، وبفوائد مقبولة، لأن إقراض هذا القطاع هو إقراض آمن أكثر من الإقراض في مجالات أخرى، مثل العقار، وحتى بعض الصناعات التي يمكن أن تواجه منافسةً حادة في السوقَين الداخلي والخارجي.
ثالثاً، عودة الدولة للاستثمار في قطاع الصناعات الدوائية، لأن الدول المرشحة للمشاركة في عملية إعادة إعمار سورية لا تتجه للاستثمار في مثل هذه الصناعات، بل تتجه إلى البنية الأساسية وقطاعي النفط والغاز، وبالتالي فإن عبء النهوض في هذا القطاع يقع على عاتق الدولة السورية وعلى عاتق القطاع الخاص السوري. وغنيٌّ عن البيان أن تركيز الدولة على هذا القطاع لا يعني على الإطلاق تبديد وهدر قدرات الدولة الاستثمارية وهي بالأساس باتت ضعيفة بسبب الحرب، وتتوزع الآن على قطاعات كثيرة تحتاج جميعها إلى الدعم، بل إنه توظيف يعود بسرعة ليمكّن الدولة من استعادة ما وظفته وحتى تحقيق الأرباح، ذلك إن إشادة معمل لصناعة الدواء لا يتطلب أكثر من استيراد الآلات المناسبة، والبحث عن مكان لإقامة المصنع واستقطاب الأيدي العاملة، وهي كثيرة في سورية، ومن شأن ذلك أن يساهم في مكافحة البطالة ولاسيما للعاملين في قطاع الصيدلة والطب وبعض الصناعات الكيماوية المرتبطة بصناعة الأدوية.
رابعاً، إعفاء أو خفض الضريبة على مستوردات المواد الأولية والآلات التي تخص الصناعات الدوائية. صحيح أن الإعفاء أو الخفض الضريبي يحرم الدولة وخزينتها من عائدات هي بأمس الحاجة إليها الآن، لكن هذه الخسارة ستكون مؤقتة وما أن ينهض هذا القطاع ويكون قادراً على التصدير، وسد احتياجات السوق المحلية والاستغناء عن الاستيراد من الخارج، وتوظيف آلاف العاملين، فإنه بذلك يعود بنتائج إيجابية على خزينة الدولة تعوض ما خسرته جراء الإعفاءات أو الخفض الضريبي على الآلات والمواد الأولية التي تحتاجها صناعة الدواء.