حول إخفاء الخاشقجي
غالب قنديل
لم يأت أحد من المتفجعين بعد اختفاء الصحافي جمال الخاشقجي داخل القنصلية السعودية على ذكر سابقة مشابهة وخطيرة حدثت قبل أربعين عاما في بيروت باختفاء القائد العمالي العروبي رئيس اتحاد شعب الجزيرة العربية المناضل ناصر السعيد الذي شارك في اختطافه جهاز امن فلسطيني وتعددت الروايات حول كيفية نقله في طائرة سعودية خاصة استقدمت للغاية وثمة اكثر من رواية مسربة عن طريقة تصفيته بعد ذلك وطيلة أربعة عقود ما يزال مصيره مجهولا على كثرة الفرضيات عن قتله بعد اختطافه ونقله مخدرا في تابوت من مطار بيروت الدولي.
لا صحة للقول إن خطف الخاشقجي جاء في سياق خروج المملكة عن الرصانة في سلوك العائلة الحاكمة كما يزعم البعض فقد اختطف ناصر السعيد واخفي كليا في ذروة ما يدعوه هذا البعض بالعقلانية وتواطأت في تنفيذ الجريمة وتغطيتها قيادة منظمة التحرير الفلسطينية وبعض الإعلام اللبناني الذي قام بتبييض الصورة القاتمة “من موقع المختلف”.
لاشيء يدعو إلى التفاجؤ والذهول أمام سلوك نظام قام على البطش الدموي وربما يكون الشيء الوحيد المفاجيء هو أن السلطات السعودية الحاضرة تعمل سيوفها في رقاب أهل الدار وبعض من كانوا حتى الأمس القريب في بطانة الحكم ومن المقربين إلى دوائر السلطة والقرار.
لقد راكم الحكم السعودي الحالي في فترة زمنية قصيرة مجموعة من السوابق التي لم ينجح في التكتم عليها أو في منع تسربها من احتجاز الأمراء ومصادرة ثرواتهم وبعضهم ما يزال مجهول المصير إلى احتجاز رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري إلى نمط خاص من العلاقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب تميز بدفع الأموال بسخاء وبعقد الصفقات على الهواء مباشرة وتلك ظاهرة جديدة فرضتها شخصية الرئيس الأميركي بصراخه المتكرر: “إدفعوا”.
وراء التجبر والاستقواء في السلوك السعودي منطق يستند إلى القدرة المفرطة على شراء الصمت والكلام في هذا العالم وبالتالي على تسخير واستئجار القوة الأميركية لاستعمالها حيث يريد الحكم السعودي وفقا لمشيئته ولمصالحه الصغيرة او الكبيرة.
لم يكن جمال الخاشقجي يوما من صحافيي القضايا القومية والوطنية التحررية بل هو من البطانة القريبة للحكم السعودي وقد باشر مسيرته المهنية قرب رئيس الاستخبارات السابق الأمير تركي الفيصل في الترويج الإعلامي لشبكة القاعدة ولخرافة الجهاد الأفغاني التي خطط لها المستشار الأميركي الأسبق بريجينسكي في ثمانينيات القرن الماضي خلال الفصول الدامية للحرب الباردة الأميركية السوفيتية.
الانتقادات الخجولة التي ساقها جمال الخاشقجي في مقالاته عن الوضع السعودي الأخير منذ تسلم ولي العهد لزمام الأمور كانت تعكس أصداء اعتراض من داخل الأسرة المالكة ولا تخرج عن سياق ولائه للنظام السعودي على الرغم من كونه أخواني الهوى والتفكير كما تشير كتاباته وأحاديثه عن سورية وقد كانت في معظمها جزءا رئيسيا من عدة الحرب الإعلامية ضد سورية ومحور المقاومة عبر تعميم سردية الثورة المزعومة التي ساهم الخاشقجي في نسجها وظل متمسكا بها.
الضيق بأي اعتراض واستباحة تصفية المخالفين في الرأي والموقف من أبناء شبه الجزيرة ميزة لصيقة بالنظام السعودي الاستبدادي التيوقراطي المطلق الذي يمثل أقرب حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة بعد إسرائيل منذ ما يزيد على نصف قرن من الزمن وهذا النظام لم يبخل في مشورته “الديمقراطية ” على البلاد العربية التي تمردت على المشيئة الأميركية كسورية بواسطة وسائله الإعلامية الممولة بسخاء والتي نجحت في تجنيد مئات الكتاب من داخل المملكة ومن مصر وسورية ولبنان وفلسطين والعراق وغيرها وتشغيلهم كآلة ترويج منظمة تعمل بإمرة أصحاب الأمر في الرياض.
إن البطش بأي كاتب او صحافي هو امر مرفوض ومستنكر أيا كان موقعه واللافت للنظر ان جميع الأبواق المستأجرة من كتاب وقوالين ممن ملأوا الدنيا صراخا في التفجع الاصطناعي على الحريات هنا او هناك بالأمر الأميركي قد خرسوا كأنما التهمت ألسنتهم الوحوش فلم يطلق احد منهم كلمة استنكار ولوخجولة.
الضحية اليوم ليس ثوريا غيفاريا ولا هو داعية تحرر وطني بل إنه أحد محازبي العائلة المالكة السعودية المقرب من أركانها المتحمس لفكر الأخوان المسلمين والمروج للحروب الأميركية في كل مكان من العالم وفي المنطقة العربية خصوصا حيث كرس الخاشقجي العديد من مقالاته لتسويق صورة الربيع الخادعة مستعينا بمفردات المطبخ الأميركي عن كذبة الثوار من الأخوان والقاعدة وداعش.
إن استحق الأمر توصيفا فهو من وجوه التآكل الذاتي لنظام العائلة السعودية الحاكمة التي تعيش مأزقا عميقا يتمادى بكل وجوه حركتها من نزاعاتها الداخلية إلى حروبها العاثرة في المشرق والخليج أو قل إنها غارقة في لعنة العدوان على سورية وفي إثم الإبادة اليمنية.