التهويل المالي والابتزاز السياسي
غالب قنديل
اكثرت جهات سياسية وإعلامية متعددة من ترويج سيناريوهات انهيارية تحذر من ازمة داهمة اقتصاديا وماليا تنعكس سلبا على سعر صرف الليرة اللبنانية واستعملت في تعميم الذعر الشعبي وانطباعات الخطر الداهم ذكريات وصفحات تعود إلى الأزمة الكبرى التي عاشها اللبنانيون في الثمانينيات وما جرى بعد الطائف وعشية الانتقال إلى العهد الإعماري ووصفة الدين المتضخم بكل ما واكبه وما مهد له من مضاربات منظمة ضد العملة الوطنية وصلت لدرجة رفع يد المصرف المركزي عن مهمته المحورية التي هي حماية النقد الوطني ويدل الاستقراء الفعلي للأحداث على ان مداخلات عديدة مبرمجة قد جرت سياسيا ومصرفيا وإعلاميا تنفيذا لمخطط جند له حلف سياسي كبير من الخارج والداخل لتصنيع انطباعات الرأي العام ولتسويق فكرة الاستدانة المتضخمة وفوائدها الربوية.
اليوم يدور كلام كثير عن خطر الانهيار المالي وتفاقم المأزق الاقتصادي لا تؤكده المؤشرات الواقعية التي تشير إلى ثبات نسبي في الوضع النقدي واستمرارية الدورة الريعية القائمة بفضل تدفق تحويلات اللبنانيين العاملين في الخارج المقدرة بتسع مليارات دولار سنويا تمثل العنصر الإيجابي اليتيم في مكونات الوضع الاقتصادي ومحفزاته وهي مصدر النمو المتواصل في حجم الودائع المصرفية وما تبقى من وجوه حركة في القطاع العقاري بعدما تلقى ضربة مؤلمة بوقف القروض السكنية المدعومة.
القطاع المصرفي يراكم موجودات إضافية وأرباحا متزايدة بفضل تنويع مجالات استثماراته المالية في الخارج والداخل بناء على استشارات المصرف المركزي المسماة بالهندسة المالية التي اتسمت عملياتها في الأعوام الأخيرة بخدمة اهداف سياسية ومصرفية فانعشت قوى رئيسية في النظام السياسي ورفدتها بعائدات ضخمة بصورة متعمدة.
القطاع المصرفي يزهو بوفرة ما لديه من ثروة واموال وأرباح يمول بجزء منها الدين العام وخدمته وهو قد تحول بعد تضخمه إلى قوة مسيطرة على الاقتصاد الوطني تصنع السياسة وتوجه دفة القرارات الحكومية المالية والاقتصادية وفقا لما برهنت عليه محطات عديدة خلال السنوات الماضية والكلام عن ازمة وشيكة او انهيار قادم لا أساس له من الصحة في المؤشرات المالية الواقعية.
ما هو قائم استمرار نزف الشباب المهاجر وتقلص فرص العمل وانكماش مداخيل العائلات التي ما تزال تجاهد للتكيف عبر هجرة الأبناء المسعفين بحوالاتهم او بالجمع بين الوظيفة والحصة الممكنة باستثمار زراعي صغير او بالنسبة للشرائح الوسطى باختزال هوامش الرخاء لكن جميع تلك الفئات المصابة بالانكماش لم تبلغ في وعيها ورد فعلها درجة الخروج للاحتجاج او مراجعة ولاءاتها المبنية على عصبيات النظام الطائفي كما عبرت عنها في الانتخابات النيابية الأخيرة. بقوة الريع المالي المتواصل يستمر ويتجدد الواقع السياسي الذي يدير اقتصادا مصابا بخلل هيكلي بنيوي نتيجة تهميش قطاعات الإنتاج وتدمير فرص نموها بل ومع تغليب المواقف السياسية السلبية التي تمنع إنعاش حركة الصادرات الصناعية والزراعية بإذكاء وتعميم موجات الحقد وترويج القطيعة مع الشقيقة سورية وهي بفعل القدر الجغرافي منفذ لبنان البري الوحيد وقد سقطت عبر التاريخ جميع محاولات إدارة الظهر لهذه الحقيقة بدافع جهل او تبعية للعواصم الغربية او للمحاور العربية والإقليمية التي ناصبت سورية العداء واستخدمت المنصات السياسية والإعلامية اللبنانية للنيل منها.
تتركز الأولويات على فرص مضاعفة الريع دون أي توجه إنتاجي حقيقي في نظام التقاسم ويستمر الارتباط التبعي بالغرب وسلة قروض سيدر التي أقرت تم تسويقها تحت ستار التهويل بالانهيار وتم ابتزاز العديد من القوى السياسية بهذه الوسيلة لنيل مصادقتها بنخوة ” ام الصبي “.
وينبغي النظر بتمعن نقدي إلى تعامل النظام السياسي مع المكتشفات النفطية والغازية المتوقعة حيث يسود منطق اولوية ضخ العائدات المرتقبة إلى المجموعات المصرفية تحت شعار إطفاء الديون بدلا من البحث في استثمار قسم رئيسي من تلك العائدات لخلق قطاعات إنتاجية متطورة قادرة على النمو والمنافسة واستحداث فرص عمل جديدة في مجالات زراعية وصناعية وسياحية متخصصة ينبغي استحداثها وتأسيس بنيتها التحتية ومرافقها التقنية.
التهويل بالأزمة وبالانهيار الوشيك له غايات واهداف سياسية واقتصادية أبرزها تمرير تشكيلة حكومية لا تراعي نتائج الانتخابات وتستجيب لرغبات خارجية مكشوفة بلي ذراع الرئيس ميشال عون وبالضغط على سائر الكتل والجهات السياسية الداعمة للمقاومة التي تدعو إلى المبادرة لتحريك العلاقة اللبنانية السورية وإلى إنعاشها بمباردات نوعية كما تستعمل مع التهويل بالكارثة والترويج لضرورة الاستعجال ادوات الضغط المتعددة والمتشابكة من تهديدات نتنياهو إلى العقوبات الأميركية المتزايدة.