حول مأزق الإعلام اللبناني
غالب قنديل
الأزمات المتلاحقة لوسائل الإعلام اللبنانية تعكس مجموعة من العناصر والعيوب الهيكلية المسكوت عنها وقد جاءت من خارج السياق النمطي بعض المبادرات التي تقترح استعارة نماذج دعم وتمويل حكومي وإجراءات وتدابير سبق ان نبذها النظام اللبناني تاريخيا ورفض بشدة اعتمادها أو حتى المناقشة حولها تحت شعارات الحرية الرأسمالية والمبادرة الفردية.
الإعلام الذي يشكو من تقلص الواردات الإعلانية والتجارية بجميع فروعه المكتوب والمرئي والمسموع يطالب بتدخل الدولة التي دافع معظمه عن التمسك بيدها المرفوعة وساند الاحتكارات الإعلانية التي سبق ان عطلت مبادرات حركها المجلس الوطني للإعلام منذ إنشائه لسن قانون ينظم الإعلان في لبنان عملا بما نص عليه قانون المرئي والمسموع 382 / 94 وظل الأمر معلقا لحساب حفنة احتكارية مهيمنة تدير خيوط اللعبة وخطوطها فتتحكم بالاستطلاعات والإحصاءات التي تحدد مدى الانتشار وباستقطاب القراء والمستمعين والمشاهدين وتقدم للمعلنين ولوكلائهم اولويات الإنفاق وحجم الموازنات فتحرم من تشاء وتغدق على من تشاء وتتحكم بالنسب والحصص والعمولات.
المسكوت عنه من التحولات الصامتة الموجعة التي تعجل من لحظة الحقيقة وتختصر مسافة الحياة المتبقية لعشرات المؤسسات ليس فحسب توسع دور وانتشار الإعلام الجديد ومنافسة وسائل التواصل الاجتماعي للإعلام التقليدي بل تراجع الوظيفة التي كرست التمويل الخارجي لوسائل الإعلام اللبناني وتقلص ذلك التمويل لعدة أسباب لا يأتي أي من أهل المهنة على ذكرها.
لقد اعتاش الإعلام اللبناني بصحفه ومحطاته الإذاعية والتلفزيونية على تمويل خارجي أدى لقاءه وظيفة سياسية مبرمجة إقليمية وداخلية في خدمة الخارج وحتى التمويل الإعلاني الضخم الذي كانت تحصل عليه مؤسسات إعلامية لبنانية كان بمشيئة سياسية خارجية وثمنا لخدمات سياسية وتلك حقيقة ينبغي الاعتراف بها وليس الشكل الوحيد للتبعية التي تحكم نظامنا الإعلامي هو الارتباط بجهات حكومية واجهزة استخبارات دولية وإقليمية وتنفيذ طلباتها وتلبية رغباتها في شؤون الداخل اللبناني والمحيط الإقليمي.
في الأمس القريب شهدنا حركة الربط والتشبيك التي قادها مكتب التواصل الأميركي منذ تأسيسه بعد احتلال العراق بعلاقته الوثيقة في لبنان مع العديد من المؤسسات الإعلامية الصحافية والمرئية والمسموعة ونستطيع ان نقرا تأثير تلك العلاقات المالية والأمنية بالولايات المتحدة في ثنايا التوجهات والمواد الإعلامية التي تلقيناها وجاءتنا محملة برؤية اميركية ترويجية حول ما يجري من احداث محلية وإقليمية وفق مشيئة حكومة الولايات المتحدة وخططها مع حلفائها وحيث انساقت المنابر الإعلامية اللبنانية في شن الحملات وإدارة الحروب وتورطت في الكثير من الأفعال التضليلية عندما شاركت في تسويق جماعات الإرهاب والتكفير والتغطية على جوهرها الإجرامي أو في تبني خطاب شيطنة المقاومة الذي اعترف جيفري فيلتمان بأن وسائل الإعلام اللبنانية التي تبنته كلفته لشراء قرارها وعقولها المدبرة والأقلام والوجوه والحناجر المنفذة خمسمئة مليون دولار خلال سنوات عمله كسفير لبلاده في لبنان ولاريب في ان تلك اللعبة المهينة لفكرة وطنية الإعلام اللبناني واستقلاله استمرت بعد انتقال فيلتمان من بيروت إلى واشنطن ثم إلى نيويورك وهذا ملف وضع منذ إثارته خارج أي مساءلة قانونية وتجري التغطية عليه خلافا لأي أصول قانونية وبالتأكيد ضد الأعراف القانونية والأخلاقية للممارسة الإعلامية التي يثرثر عنها اهل الإعلام اللبناني كثيرا وبصورة انفصامية مضجرة.
من الواضح ان “حنفيات” التمويل الخارجي تعاني شحا يعود لأسباب عديدة يمكن إيجازها على النحو التالي :
اولا هزيمة حرب كبرى شنت ضد سورية والمنطقة شغلت فيها مؤسسات إعلامية لبنانية دور البوق الحربي ولذلك تراجع بعض التمويل بانتظار تعيين وظيفة لاحقة لمن تم استخدامهم خلال غزوة التكفير لسنوات في الهجوم المكسور لتدمير سورية ولبنان.
ثانيا تراجع الموارد النفطية التي كانت مصدر التمويل الخارجي لبعض الإعلام اللبناني ولوظائفه الإقليمية في الحروب والنزاعات وانعكاس ذلك التراجع على أولويات التمويل والإنفاق لدى الحكومات المعنية وكما فكك بعض الممولين منصاتهم الحربية فقد قلصوا عطاياهم وأدخلوا بعض المعتمدين في مأزق وجودي.
ثالثا تفضيل الحكومات الممولة لاعتماد منظوماتها الإعلامية الخاصة التي تملكها مباشرة بدلا من التركيز على منصات إعلامية مستأجرة فلدى حكومات الخليج إمبراطورياتها الإعلامية والإعلانية التي تجعلها في غنى عن استخدام المنابر اللبنانية كأولوية وهي كانت جناحا تكميليا لخططها السياسية حول سورية ولبنان والعراق وضد إيران وقد لجأت تلك الحكومات إلى استخدام ما تحتاجه من الكادر اللبناني.
رابعا إن التقديمات الحكومية التي يطالب بها الإعلاميون لإنقاذ مؤسساتهم ينبغي بالمنطق ربطها بلائحة التزامات مقابلة تحد من أذى الفلتان الإعلامي الخطير الذي يجسده تورط منابر الإعلام اللبناني وانحدارها إلى سلوكيات الإثارة الطائفية والتحريض المؤذي الذي يدفع البلاد في متاهة التوتر والانقسام الداخلي عند أي اختلاف او تباين سياسي طبعا سيكون العليق على هذه الفكرة عويل وندب على الحرية.
خامسا لابد من وضع تشريع ينظم الإعلان ويطور صناعته وسوقه معا كما يضمن توزيعا منصفا لموازناته المحلية والخارجية بين المؤسسات الإعلامية فيضمن حصص الصحف والإذاعات وجميع المؤسسات التلفزيونية بتكافؤ للفرص معياره الانتشار والاستقطاب الشعبي الذي تقيسه دراسات إحصائية موثوقة المرجعية.