ملاحظات حول “الترتيبات النهائية” أو “صفقة القرن”: زياد حافظ
خلال اجتماعات الأمانة العامة الجديدة المنتخبة للمؤتمر القومي العربي واجتماعات لجنة المتابعة للحوار القومي الإسلامي تمّت مناقشة ما يُسمّى بـ «صفقة القرن». أشار بعض المشاركين إلى أن ذلك المصطلح غير دقيق لسببين: فالسبب الأول هو أن المصطلح يفترض وجود على الأقل طرفين أحدهما يمثل الشعب الفلسطيني، وبما أن الشعب الفلسطيني ومن يمثله غير موجودَين للموافقة على ما يحصل أو يُعرض فلا يجوز التكلّم عن صفقة. أما السبب الثاني، فهو أن ذلك المصطلح ترجمة غير دقيقة لما أطلقته الإدارة الأميركية كـ «ترتيبات نهائية» لحل الملف الفلسطيني. وبالتالي من الصعب التكلّم عن صفقة تفرض موافقة «أطراف». ولكن بعيدا عن الجدل المصطلحي فلا بد من إبداء ملاحظات حول تلك «الترتيبات» سواء كانت «صفقة» أو «مخططات» أو أي شيء آخر .
الملاحظة الأولى هي أنه لا يجب أن نقلّل من خطورة ما نشهده من أفعال تقوم بها كل من الإدارة الأميركية والكيان الصهيوني وفقاً لمسار واضح الهدف وهو إقفال الملف الفلسطيني عبر تصفية القضية الفلسطينية برمّتها وجعلها فقط قضية اقتصادية اجتماعية لمجموعات أي الفلسطينيين من دون أي حقوق سياسية كوحدة تراب فلسطين، والاستقلال الوطني، وحق العودة، والتعويض عن القتل، والتهجير، والتدمير، وطمس الهوية، والمسّ بالكرامة. ويعدّد المراقبون هذه الخطوات بدءاً من قرار نقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وهو قرار تمّ التصويت عليه بشبه إجماع في الكونغرس الأميركي خلال ولاية الرئيس كلنتون، أي منذ حوالي 25 سنة ، مروراً بقرار تصويت الكنيست الصهيوني على قرار القومية اليهودية، وإيقاف الولايات المتحدة تمويل منظّمة الاونروا، واقفال سفارة فلسطين في الولايات المتحدة وطرد الدبلوماسيين وعائلاتهم من دون سبب، وتجميد المساعدات لفلسطين. كما أن بعض الدول العربية التابعة للولايات المتحدة اتخذت قرارات بعدم تجديد الإقامات للفلسطينيين الحاملين لجوازات سفر فلسطينية غير جوازات سفر صادرة عن الدول التي يقيمون بها كخطوة عملية قسرية للتوطين في بلاد الشتات. هذه الإجراءات شكّلت بداية «الترتيبات النهائية» على أن تليها «ترتيبات» أخرى تحرم الفلسطينيين من أي وطن وحقوق سياسية وجعلهم فقط «مقيمين» في فلسطين مع حق الكيان الصهيوني بطردهم متى شاء.
الملاحظة الثانية هي أن هذه الإجراءات تدلّ على إصابة الإدارة الأميركية وقيادة الكيان الصهيوني وبعض دول مجلس التعاون الخليجي بمرض التوحّد السياسي، حيث يضربون على نغم واحد غير مكترثين بالنتائج وردود الفعل على قراراتهم، وكأن ليس هناك من شعب فلسطيني، ولا قوى عربية من دول وفصائل تقاوم ما يُخطّط. وكأن المسألة «كن فيكون»! فجولة المبعوثين الأميركيين كوشنر وغرينبلات لم تسفر عن أي نجاح في محادثاتهما مع مسؤولين عرب يستطيعون التأثير على القرار الفلسطيني. ما تمّ عرضه كان خالياً من أي مضمون سياسي وكأن المسألة فقط مسألة تسوية أوضاع عقارية أو نهاية خدمة موظفين. فالعقلية السائدة عند الإدارة الأميركية وخاصة عند الرئيس الأميركي هي ذهنية الصفقات العقارية دون الاكتراث للبعد السياسي الذي يحيط بالملفّ الفلسطيني. وبالتالي، لن تلقى هذه المحاولات أي نجاح حتى على الصعيد الرسمي العربي رغم دفع بعض دول الخليج لتلك المبادرة التي يعتبر البعض أنهم وراءها. فصهر الرئيس كوشنر المولج بالملف لا خبرة سياسية له ولا معرفة إلاّ ما تلقّاه من صديق عائلته رئيس وزراء الكيان بنيامين نتنياهو. أما شريكه جاسون غرينبلات فهو «أكثر اتزاناً» وإن كانت معرفته بالملف محدودة. فأفكار تلك «الترتيبات» النهائية تحاكي عقلية السمسار غير البعيدة عن كل من بعض المسؤولين الخليجيين ورموز الإدارة الأميركية المولجين بالملف. وما يمكن أن يعزّز ذلك الاستنتاج هو تاريخ الفشل المتراكم لصهر الرئيس في الصفقات العقارية التي ورثها عن والده. فليس معروفاً عنه أي قدرة بعقد صفقات ناجحة كما تشير وسائل الإعلام الأميركية التي تتابع أخبار الرئيس الأميركي وأفراد عائلته.
الملاحظة الثالثة تتعلّق بجدوى «الترتيبات» التي اتُخذت. فقرار الرئيس الأميركي بنقل السفارة لم يحظَ بأي تأييد دولي. فالتصويت في الأمم المتحدة، سواء في مجلس الأمن أو في الجمعية العمومية، كشف مدى عزلة الولايات المتحدة رغم صلافة تهديدات سفيرة الولايات المتحدة للدول التي «خالفت» القرار الأميركي. أما قرار الكيان باعتبار فلسطين وطناً لليهود فقط، فهو قرار ينسف سردية الكيان وكل مَن تضامن معه ودعمه طيلة سبعين سنة بأن الكيان هو «الواحة الوحيدة للديمقراطية في صحراء الاستبداد». فهذا القانون يكرّس علناً عنصرية الكيان ويجعله الكيان الوحيد العنصري رسمياً في العالم. والقانون يشكّل إحراجاً للأمم المتحدة التي تقبل في عضويتها دولة تجاهر بعنصريتها. أما «الترتيب» الثالث بإيقاف الإدارة الأميركية تمويلها منظمة الاونروا فهو ترتيب لم يلاق أي تأييد دولي. فحتّى الدول التابعة للولايات المتحدة من بين الدول العربية دعت إلى سدّ الثغرة التي شكّلها انسحاب الولايات المتحدة من التمويل. و»الترتيب» الرابع المتمثّل بإقفال سفارة فلسطين وطرد الدبلوماسيين الفلسطينيين من الولايات المتحدة من دون أي سبب غير رفض انصياع السلطة الفلسطينية لإملاءات الإدارة، فهو دليل على صلافة الإدارة وعدم احترامها أياً من المواثيق الدولية والشرعية الدولية ما يزيد في عزلتها. فما إذن قيمة تلك «الترتيبات» الأحادية التي لا تحظى بأي تأييد دولي ولا حتى القانون الدولي والشرعية الدولية؟ كما ما قيمة تلك الترتيبات التي تتجاهل عمداً الحقوق الأساسية للشعب الفلسطيني؟
الملاحظة الرابعة هي أن خلال كل تلك «الترتيبات»، فعدد من الدول الأوروبية تفكّر جدّياً بالاعتراف بفلسطين كدولة وإن كانت تحت الاحتلال. فكل من ايرلندا واسبانيا على وشك إعلان ذلك. من جهة أخرى، الدولة الوحيدة التي تراجعت عن قرارها بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس هي دولة براغواي بعد الانتخابات التي جرت فيها، والتي أتت بحكومة تناهض سياسة الولايات المتحدة. فحتّى «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة تنتفض ضد قرارات الإدارة.
الملاحظة الخامسة هي مسألة «تمويل» ما سينتج عن تلك «الترتيبات». فتوطين الفلسطينيين حيث يقيمون أو خلق أوطان بديلة أو إيجاد مناطق اقتصادية يتمّ من خلالها توظيف الشباب الفلسطيني تحتاج إلى تمويل. فالولايات المتحدة تقول صراحة أنها لن تموّل وتحثّ دول الخليج للقيام بتلك المهمة. وإذا فرضنا تلك الدول راضية عن تلك «الترتيبات»، وهذا ما نشكّ به، فإن إمكانية التمويل محدودة جدّاً بسبب تحوّلات سياسية واقتصادية جعلت من تلك الدول تفكّر بشكل جدّي مقاربة أوضاعها الداخلية لمنع الانفجار الاجتماعي الذي يهدّدها. فلا حكومة الرياض ولا حكومة أبو ظبي المستنزفتان بسبب الحرب العبثية على اليمن والإنفاق غير المسبوق على إشعال حروب وقلاقل في عدد من دول المشرق العربي تجعلها مؤهّلة لحمل العبء الذي تفرضه «الترتيبات النهائية».
ملاحظة أخيرة في «الترتيبات النهائية». فهذا المصطلح يذكّرنا بـ «الحل النهائي» للمسألة اليهودية في ألمانيا النازية التي اعتمدت سياسة الإبادة الجماعية للجاليات اليهودية في ألمانيا والدول التي احتلّتها خلال الحرب العالمية الثانية. فهل الإدارة الأميركية تفكّر بـ «حلّ نهائي» للفلسطينيين على الطريقة النازية؟
كل تلك «الترتيبات» تسير في عكس مسار الأمور، وخاصة في ما يتعلّق بموازين القوّة التي لم تعد لصالح الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. فهذه الموازين كاسرة للهيمنة الصهيونية الأميركية ومعهما بعض الدول العربية. فكيف يمكن لتلك الترتيبات أن تلاقي أي نجاح؟ الردّ بالنسبة لنا يكمن في الاستمرار في مقاومة الاحتلال الصهيوني لكل فلسطين ودعم مسيرات العودة التي ينظّمها الشعب الفلسطيني المبدع في ابتكار وسائل المقاومة، ودعم محور المقاومة الذي يقف سدّاً منيعاً ضد كل المحاولات المشبوهة.
(البناء)