سقوط الطائرة الروسية: اختبار لفعالية اجراءات موسكو للجم العدوان الإسرائيلي د.منذر سليمان
أعلنت موسكو، 22 أيلول/سبتمبر، أنها قررت إغلاق “الاجواء البحرية والاقتصادية” السورية إلى ما بعد انتهاء مناوراتها البحرية الجارية، بعد مشاورات مكثفة بين القيادات الروسية المختلفة عقب سقوط طائرة الاستطلاع الروسية فوق المياه السورية 17 الشهر الجاري.
يشار إلى أن مدى “المياه الإقليمية” وفق القانون الدولي يبلغ 22 كلم، أما “المياه الاقتصادية” فهي أبعد من ذلك بكثير، مما يرسي “قواعد اشتباك” جديدة أمام تصاعد التهديدات الغربية “والإسرائيلية” والرامية لإدامة استنزاف سوريا بعد هزائم متتالية تكبدتها المجموعات المسلحة.
وقع الحادث عندما حاولت الدفاعات السورية صد غارة شنتها 4 طائرات إسرائيلية مساء الاثنين على أهداف في مدينة اللاذقية السورية.
الموقف الأميركي، محور اهتمامنا، أتى سريعاً كاشفاً عمق مستويات التنسيق مع “اسرائيل.” إذ نقلت شبكة (سي أن أن) فور الحادث عن مصدر رفيع في الإدارة الأميركية قوله إنه “تم إسقاط الطائرة الروسية بالخطأ بصواريخ الدفاع الجوي السوري التي باعتها روسيا لسوريا منذ سنوات.
وزير الخارجية مايك بومبيو قال في بيان إن “حادث أمس المؤسف تذكرنا بضرورة إيجاد حلول دائمة وسلمية وسياسية للصراعات الكثيرة المتداخلة في المنطقة، ولخطر الأخطاء المأساوية في التقدير في الساحة السورية المزدحمة بالعمليات.” كما دعا لإنهاء عمليات نقل إيران لأسلحة عبر سوريا، واصفًا إياها بأنها مستفزة وتشكل خطرًا على المنطقة.
الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط يشهد حضوراً عسكرياً مكثفاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، بالاضافة لروسيا، وبشكل غير مسبوق.
أرسلتها للمرابطة بالقرب من الشواطيء السورية وكانت نشطة في إطلاق صواريخ مجنحة باتجاه مدينة اللاذقية. وقالت موسكو مباشرة إن فرنسا قد يكون لها صلة بحادث طائرة الاستطلاع الروسية “إيل-20،” استناداً إلى بيانات رصد راداراتها قيام “أوفيرني” بإطلاق صواريخ في سير طيران طائرتها “وحضورها في المكان والزمان غير المناسبين.”” (Auvergne) لدى فرنسا، مثلاً، فرقاطة “اوفيرني
السؤال المحوري الذي يولده سقوط “ايل-20” على بعد 27 كلم غرب مدينة بانياس بريف اللاذقية وعلى متنها 15 عسكرياً روسياً، إن كان القرار جاء بطلب من “طرف ثالث،” أسوة بما حصل مع إسقاط مقاتلة سوخوي-24، من قبل تركيا في عام 2015 بقرار من حلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة.
في كلتي الحالتين، غاب الدور الأميركي عن صدارة الحضور المباشر، ومن المستبعد (وفق رؤى صالونات واشنطن) الاعتقاد أن وجهة الإتهام “إسرائيل” قررت “انتهاك الوضع القائم طوعا، خاصة وأن روسيا منعت التشكيلات الإيرانية من المرابطة في مرتفعات الجولان، وأخذت بالاعتبار مصالح إسرائيل في سوريا بعد الحرب.” كما وأن “اسرائيل” وافقت على “مبادرة الرئيس الروسي بإرساء قواعد اشتباك محددة” للحيلولة دون وقوع صدام مباشر مع القوات الروسية هناك.
البيانات الروسية الأولى حول سقوط طائرة الاستطلاع أشارت إلى حادث “.. الطائرة التي اختفت عن شبكة الرادارات تزامن مع شن طائرات حربية إسرائيلية هجوماً على مواقع سورية في اللاذقية؛ وقيامها بمناورات جوية استفزازية عرضت الطائرة الروسية للخطر.” وأن المقاتلات “الإسرائيلية تسترت بالطائرة الروسية،” ما جعل الأخيرة عرضةً لنيران االجيش السوري.
وأضاف المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف، إن الطائرة “إيل-20” تتميز بسطح عاكس فعال أكثر من “إف-16” (الأمريكية)، الأمر الذي جعلها هدفًا للدفاعات الجوية.
الخبير العسكري والأستاذ في قسم العلوم السياسية والاجتماعية بجامعة بليخانوف للاقتصاد في موسكو، ألكسندر بيريندجييف، رجح أن ضربات العدوان الغربي على سوريا هذه المرّة لن تُسدّدها المدمّرة الاميركية والطائرات الإستراتيجيّة وحسب، بل سيكون هناك “مدعوّون جدد”، لا سيما وان طواقم عسكرية أميركية ماضية في إعداد مطار عسكري في مدينة الشدادي شمال شرق سورية.
ما يعزز توجيه الإتهام بالمسؤولية لواشنطن، من المستويين العسكري والسياسي، التصريح الأخير لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، 21 الشهر الجاري، بقوله “إن أكبر تهديد لسيادة سوريا ووحدتها يأتي من شرق الفرات،” أي المناطق الخاضعة لسيطرة (قوات سوريا الديموقراطية) المدعومة من قبل “التحالف الدولي الذي تقوده واشنطن.”
تكثيف واشنطن لحضورها العسكري في سوريا أوضحته شبكة “رووداو” الكردية يوم 20 أيلول الجاري، لا سيما في تمركز عدد من الشاحنات المحملة بالأسلحة والعتاد في محيط مدينة الحسكة ودخول “500 شاحنة أمريكية محملة بالأسلحة والمعدات العسكرية لمناطق كوردستان سوريا وشمال سوريا منذ مطلع شهر أيلول/سبتمبر الجاري؛” أرسل قسم منها إلى منطقة “منبج” بريف حلب.
وأضاف المصدر الكردي أن لأميركا “..أكثر من 18 قاعدة عسكرية في سوريا وكردستان السورية” بالإضافة لوحدات من قواتها الخاصة وفدت تباعاً.
في ظل هذه التطورات والصدام يلوح في الأفق، أعلن سلاح البحرية الأميركية، 20 أيلول الجاري، وصول “مجموعة ضاربة من سفن الأسطول الأمريكي تتقدمها حاملة الطائرات “هاري ترومان”، دخلت المتوسط وشرعت في تنفيذ عمليات تدريبية هناك.” يذكر أن حاملة “هاري ترومان” شاركت بقصف دمشق ومواقع سورية بصواريخ “توماهوك” في شهر نيسان/ابريل الماضي. وتتضمن المجموعة، حسب قائدة الأسطول السادس الأميركي ليزا فرانشيتي، طراد “نورماندي” الصاروخي وعدد من المدمرات بالإضافة إلى “هاري ترومان” التي تحمل على متنها 9 مجموعات من الطائرات المقاتلة.
موسكو أعدّت رزمة “مفاجآت” للردّ على الضربات الأميركية-الأطلسيّة المُزمعة، موضحا انّ رد موسكو جاء بالكشف عن قدرات الطرّاد الصاروخي الروسي “مارشال اوستينوف،” المرابط بالقرب من السواحل السورية، والذي باستطاعته تنفيذ منطقة حظر جوّي في منطقة طرطوس وقاعدة حميميم بوسائل الدّفاع الجوي “أس300 إف “فورت،” والتصدي لأي صواريخ يحتمل إطلاقها عبر المجال الجوي اللبناني.
في تطور ملفت وبالغ الأهمية خلال زحمة الاهتمام بموعد بدء معركة تحرير إدلب من المجموعات المسلحة، أعلنت روسيا وأميركا عن اتفاقهما لتفكيك “مخيم الركبان” وسحب القوات الأميركية من التنف على الحد\ود الجنوبية لسوريا وترحيل المسلحين إلى إدلب. واكبه اتفاق القمة بين الرئيس الروسي بوتين ونظيره التركي اردوغان في (سوتشي) الروسية لتجنيب إدلب معركة قاسية بالقضاء على المجموعات الإرهابية هناك “تدريجيا” بدءأ بانشاء “منطقة منزوعة السلاح في محافظة ادلب .. وخروج جميع الفصائل الجهادية في 10 تشرين الأول/اكتوبر المقبل؛ ونزع الأسلحة الثقيلة من دبابات وصواريخ ومدافع هاون” التي بحوزة تلك المجموعات؛ بالاضافة الى بنود أخرى تتعلق بطبيعة الترتيبات والتنسيق الميداني مع تركيا.
الإعلان عن “إخلاء” قاعدة التنف من الوجود الأميركي لم ينل اهتماماً أميركياً كافياً، كونه جاء ترجمة لقمة هلسينكي بين رؤساء البلدين، من ناحية، وكونه يجسد المأثور الشعبي “الطبل بإدلب والعرس بالتنف.”
أمام هذه الخلفية من “تراجع المخطط الأميركي” بتفكيك سوريا، وحشد قوى عسكرية غير مسبوقة بين الدولتين العظميين، ومثلث العدوان الثلاثي القديم، معطوفة على “تساهل” روسيا النسبي في التصدي لاختراق الأجواء السورية المتواصلة، قفز المشهد السياسي العام إلى مناخ جديد “لإرجاء” الصدام العسكري والسماح باستعادة الدولة السورية سيادتها “تدريجيا” على محافظة إدلب. أما مصير المجموعات المسلحة فقد تم “إعادته” للدول الراعية، عبر تركيا، التي ستكون مسؤولة دولياً عن “الفصل بين القوى المختلفة” وتركها لمصيرها المحتوم إن لم تقبل عروض المصالحة من الدولة السورية.
الثابت في السياسة الدولية أن روسيا وأميركا أحجمتا عن الصدام المباشر، على الرغم من لعب الأخيرة على حافة الهاوية، خاصة بعد ورود أنباء شبه موثقة بأن الضربة الصاروخية الأخيرة لمدينة اللاذقية ومحيطها جاء بعد توفر “معلومات استخباراتية محكمة” تفيد بأن الرئيس السوري بشار الأسد يتواجد في تلك المنطقة؛ ليتم استهدافه شخصياً وقلب المعادلة الميدانية.
أما وقد حسمت روسيا مرحلة ما بعد إسقاط طائرتها الاستطلاعية فقد أعيد الاعتبار للحل السياسي، الذي تفضله واشنطن بصيغة “مؤتمر جنيف” بصرف نظرها عن التحولات السياسية والميدانية الممثلة بهزيمة القوى التكفيرية؛ ودخول الأمم المتحدة مجددا على ذات اللحن السياسي.
جدير بالذكر أن روسيا لم تقتنع بالتبريرات التي قدمتها تل أبيب حول ملابسات سقوط الطائرة ولا تزال تخضع الحادث للمزيد من التحقيقات، وكل المؤشرات تدل على أن القيادة الروسية عازمة على اتخاذ اجراءات جديدة تتركز حول حماية قواتها العاملة في سوريا، وليس من المستبعد تزويد سوريا بمعدات تقنية وعسكرية جديدة متطورة تضمن التصدي والردع للإعتداءات الإسرائيلية المتكررة؛ كما حسم الأمين العام لحزب الله السيد نصرالله في خطابه الأخير مسألة امتلاك المقاومة اللبنانية للسلاح الضروري دون الحاجة لأي “شحنات ” جديدة عبر سوريا، وهي الذريعة الجاهزة اسرائيليا ليتبرير اعتداءاتها.
سيتم اختبار مدى الإجراءات الروسية الجديدة في سوريا لدى اي محاولة اعتداء اسرائيلية مرتقبة على السيادة السورية، ولقد فرضت حادثة سقوط الطائرة الروسية والمسؤولية الاسرائيلية فيها اعادة النظر بالمقاربة الروسية المتساهلة لتاريخه في التعامل مع الكيان الإسرائيلي .