جولة نقاش مع المثبّطين- منير شفيق
هل مر يومٌ بالثورة الفلسطينية منذ الأول من عام 1965 لم يُعتبر بأنها تمر بمأزق خطير؟ وهل مر يومٌ بالقضية الفلسطينية لم تُعتبر بأنها معرضة للتصفية، أو أن مؤامرة تصفيتها ماضية نحو هدفها .
ولكن استمرار أو تكرار هذا “اليوم” إلى يومنا هذا، ومنذ الأول من عام 1965، دليلٌ قاطع على أن التقدير الدائم بالمأزق الخطر وبمؤامرة التصفية الماضية إلى هدفها، ليس صحيحا كتقدير للوضع في كل مرة؛ لأنه لو كان دقيقا أو صحيحا، ولو لمرة واحدة، طوال خمسة عقود، لكانت الثورة الفلسطينية قد انتهت، ولكانت القضية قد صفيت منذ زمن كذلك.
صحيح أن المرور بالمآزق كان سمة عامة للكفاح الفلسطيني، وصحيج أن التعرض لمؤامرات التصفية كانت لازمة دائماً. ولكن كان الإفلات من المأزق تلو المأزق سمة عامة أيضاً، وكان إحباط المؤامرة تلو المؤامرة سمة عامة كذلك. ولهذا من الخطأ الحديث عن المرور بمأزق خطير دون إرفاقه بتقديرٍ للموقف يبيّن أن الإفلات منه ممكن، بل حاصل لا محالة، كما من الخطأ الحديث عن مؤامرة التصفية دون إتباعه بتقدير للموقف يؤكد إمكان إحباطها، بل وجوبه.
بل لا بد من التأكيد بأن عدم إمكان تصفية القضية الفلسطينية هو القانون الحاكم للصراع، مهما تمكن العدو في التوسع والاحتلال وامتلاك القوة. وهو ما أكده تاريخ القضية منذ 1917 إلى اليوم، وذلك بالرغم من الضربات القاسية التي تلقتها القضية مثل نكبة 1948، أو الهزيمة العسكرية 1967، أو اتفاق أوسلو 1993.
من يتابع تاريخ الصراع بين الشعب الفلسطيني والمشروع الصهيوني؛ يجب أن يلحظ بأن المرحلة الأولى 1917-1948، كانت المرحلة الأصعب بتاريخ الصراع والقضية الفلسطينية. فالجيش البريطاني حكم فلسطين حكماً عسكرياً مباشراً، فيما خضعت البلاد العربية للتجزئة والسيطرة الاستعمارية البريطانية- الفرنسية- الإيطالية، العسكرية والسياسية المباشرة، الأمر الذي جعل ميزان القوى في فلسطين مختلاً تماماً، في مصلحة فرض الهجرة اليهودية، وفرض إقامة الكيان الصهيوني على 78 في المئة من فلسطين، وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني (حوالي 900 ألف) من ديارهم وتحويلهم إلى لاجئين. ولكن برغم ذلك، واجه تنفيذ المشروع خلال هذه المرحلة مقاومة متواصلة متعددة الأشكال. وما استطاع تحقيقه بالرغم من هوله ووصوله إلى حد النكبة، لم يصل إلى حد تصفية القضية الفلسطينية، بل أصبحت قضية فلسطينية وعربية وإسلامية، لتبدأ مرحلة جديدة هي المرحلة الثانية مرحلة 1949-1967.
ففي هذه المرحلة اتجهت بوصلة النضال الفلسطيني نحو تثبيت استمساك اللاجئين بحق العودة، ورفض مشاريع التوطين، كما تكرس البقاء في الأرض بالنسبة إلى فلسطينيي 1948، أي الذين بقوا تحت الاحتلال الصهيوني والكيان الصهيوني. كما اتجهت إلى المساهمة في النضال العربي من أجل التحرر من السيطرة الإستعمارية، ومن أجل الوحدة وصولاً إلى تحرير فلسطين.
هنا أيضاً أفلت النضال الفلسطيني وأشكال المقاومة من المآزق الكثيرة، كما أفلتت القضية الفلسطينية من التصفية، ولا سيما في إحباط مشاريع التوطين من 1953-1955 فصاعداً. وقد ضرب على الكيان الصهيوني حصار سياسي خانق.
أما المرحلة الثالثة، فقد نجمت عن نتائج حرب حزيران 1967 وتداعياتها حتى اتفاق أوسلو 1993/1994. ففي هذه المرحلة، تطور النضال الفلسطيني بمختلف أشكاله إلى تبني هدف تحرير فلسطين، واستراتيجية بناء جيش تحرير فلسطين المثبتيْن في ميثاق “م.ت.ف” 1964، ومن ثم تطويره بتبني استراتيجية الكفاح المسلح وانتقال القيادة إلى فصائل المقاومة المسلحة عام 1968.
هذه المرحلة هي المرحلة التي برز فيها تقدير الموقف المشار إليه: التركيز على المأزق الخطير، وعلى مؤامرة التصفية، وتوّج ذلك بشعار خاطئ، ومدمّر للمعنويات: “يا وحدنا”. ومن دون أن يلحق بكل حديث عن مأزق، تقديرٌ للموقف يقول بإمكان تخطيه، وأحياناً التخطي بنشوء بديل نضالي فوري، وكذلك من دون أن يلحق، بكل حديث عن مؤامرة تصفية، تقدير موقف يعطي أملاً بإمكان إحباطها وإفشالها. وهكذا نشأ منهج التركيز على السلبيات، أو على نصف الكأس الفارغ، كأننا نهوى التشاؤم وإثباط عزائمنا بأيدينا. وكان هذا النهج الخاطئ في قراءة موازين القوى، وشعار “يا وحدنا”، من الأسباب التي أوصلت إلى اتفاق أوسلو الكارثي، ثم سوّغته، وأقنع البعض أنفسهم به.
صحيح أن الثورة الفلسطينية أو فصائل المقاومة واجهت مأزقاً خطيراً في الأردن في أيلول/ سبتمبر عام 1970، ثم في تموز/ يوليو 1971، والخروج من الأردن. ولكن هذا المأزق لم يكن مأزق نهاية وانسداد لا اختراق له، وإنما سرعان ما تحوّل الانتقال إلى لبنان مخرجاً من ذلك المأزق، ولو لمدى 12 عاماً. وصحيح أن الخروج من لبنان عام 1982 أدخل “م.ت.ف” في مأزق خطير وكبير، إلاّ أنه لم يكن مأزق نهاية، وإنما بداية جديدة لتعظيم مقاومة الداخل الفلسطيني مكللة بالانتفاضة الأولى، وبتدفق دماء جهادية إسلامية عوّضت إسقاط البندقية من أيدينا في اتفاق أوسلو.
طبعاً ولا شك أن أخطر مأزق واجهته المقاومة الفلسطينية المعاصرة والقضية الفلسطينية، كان اتفاق أوسلو وتبعاته، وصولاً إلى التنسيق الأمني 2007 حتى الآن. ولكن هذا المأزق سرعان ما عوّض باستمرار المقاومة: حماس والجهاد والانتفاضة الثانية، وانضمام كتائب الأقصى لها. بل وصل التعويض إلى بناء المقاومة للقاعدة العسكرية في قطاع غزة 2007، والانتصار في ثلاث حروب (2008/2009، 2012، 2014)، إلى جانب انطلاق الحراكات الشبابية في الضفة الغربية، وانتفاضة القدس في تموز/ يوليو 2017، ومن قبلها الانتفاضة الشبابية الفردية العفوية في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 (حتى الآن).
وبهذا كان المأزق الأخطر هو مأزق الذين دخلوا في اتفاق أوسلو، ولم يعرفوا كيف يخرجون منه. ولم يكن مأزق المقاومة الفلسطينية بعامة، ولا كان مأزق القضية الفلسطينية حين ذهبت بها قيادة “م.ت.ف” إلى المفاوضات وحل الدولتين؛ لأن الفشل كان من نصيب تلك المفاوضات وحل الدولتين التصفوي كذلك.
والآن، وبرغم ما راح يسميه البعض بصفقة القرن، وبرغم تهافت عدد من الدول العربية هرولة نحو العدو الصهيوني، وبرغم الصورة السوداء التي راح يرسمها البعض فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً، وهو ما أعاد نغمة الحديث عن تعرض المقاومة للمأزق الخطير والقضية للتصفية النهائية، كما “يا وحدنا”، والأنكى متى؟ الجواب، فيما المقاومة في قطاع غزة في أوجها، ومسيرات العودة الكبرى، وإطلاق طائرات وبالونات اللهب يومياً تضرب في المستوطنات في محيط القطاع، وفيما تتمرغ سياسات المفاوضات والتسوية في الطين، وتتحفز القدس والضفة الغربية للانتفاضة الشاملة، وفيما يترنح فرض الحصار على قطاع غزة، ويعجز نتنياهو حتى عن أن يمنع، بالقوة، انطلاق الطائرات والبالونات حاملات اللهب إليه، وفيما الوضع العربي المهرول يزيد عزلة وضعفاً وارتباكاً، وفيما دونالد ترامب يتخبط في سياساته خارجياً وداخلياً خبط عشواء.
هذا من دون أن يشار إلى ما وصلته المقاومة في جنوب لبنان من قوة ومنعة وتهديد للعدو الذي يقف أمامها عاجزاً.
حقاً إنها لمأساة أن نسمع أمام كل هذه الـ “فيما” أصواتاً تتحدث عن المأزق الخانق الذي تتعرض له المقاومة، ومسيرة العودة الكبرى، وتتحدث عن تصفية القضية الفلسطينية، وتردد “نشيد” الشؤم “يا وحدنا”. ثم لا ينخفض صوتها، أو يبح تماماً، وهي ترى التزايد في النصف الملآن من الكأس، أو وهي ترى، ما تحمله الأوضاع الراهنة من فرص أمام المقاومة والمسيرات والانتفاضات الفلسطينية، ليس في قطاع غزة فحسب، وإنما أيضاً في القدس والضفة الغربية. والقرار هنا بيد الفصائل في أن تذهب إلى وحدة وطنية تواجه احتلال الضفة الغربية والقدس بانتفاضة شعبية سلمية شاملة، طبعاً مع ما يتيسر بيد الشباب والشابات من “مبادرات” في المقاومة.
موازين القوى في قطاع غزة تسمح بفك الحصار كاملاً مقابل وقف طائرات وبالونات اللهب، مع المحافظة على المقاومة المسلحة، تحت معادلة وقف إطلاق نار، أو اشتباك على أساس صاروخ مقابل صاروخ، ودم مقابل دم، وقنص مقابل قنص، فضلاً عن استمرار مسيرات العودة أسبوعياً.
وموازين القوى تسمح في القدس والضفة الغربية بمنازلة الاحتلال والاستيطان من خلال انتفاضة شاملة، في ظل وحدة وطنية، تركز على دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وما يسمى “صفقة القرن”. وتبقى الأعين مفتحة والقلوب مشدودة إلى تحرير فلسطين تحريراً كاملاً من النهر إلى البحر، ومن رأس الناقورة إلى أم الرشراش.
طبعاً، هذا يجب ألاّ يقلل من خطورة السياسات الأمريكية بالنسبة إلى القدس، أو فتح السفارة الأمريكية، أو الهجمة على وكالة الغوث، أو إصدار “قانون القومية”، لا سيما إذا سادت “قراءات المثبّطين”. وإنما يستهدف التأكيد على ميلان ميزان القوى في مصلحة المقاومة ومسيرة العودة الكبرى، وإطلاق “الطائرات” والبالونات الحارقة في قطاع غزة، كما في مصلحة تشكيل أوسع وحدة وطنية تتبنى خط إطلاق الإنتفاضة الشعبية السلمية الشاملة في القدس والضفة تحقيقاً للأهداف أعلاه ورداً على سياسات ترامب ونتنياهو.
حقاً، ثمة مشكل موازٍ يواجهنا هو مشكل تهويل ما يقوم به العدو، بما يبعث على الإحباط، أو اللجوء إلى ردود دون فتح جبهة القدس والضفة.