مشاهدات في طهران
ليست هذه المرة الاولى التي أزور فيها ايران. فقد سبق أن جئت اليها في العام 1998، يوم قررت شركة الخطوط الجوية اللبنانية ” M.E.A” افتتاح خط جديد لها يربط بيروت – طهران وبالعكس .
في تلك الرحلة، على متن طائرة “ايرباص” تسلمتها الشركة اللبنانية حديثا من فرنسا، وبرفقة مجموعة من مندوبي وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمقرؤة لبوا دعوة رئيس مجلس ادارة “الميدل ايست” محمد الحوت الذي شارك واشرف على الرحلة بعد ان وضع برنامجا شاملا لها تضمن زيارة المعالم الأثرية والأسواق القديمة والقصور الفخمة التي شُيدت في عهد الشاه الراحل رضا بهلوي.
أمضينا أربعة أيام تحولنا فيها الى سياح نستكشف بلدا لم نطأ أرضه من قبل، لكننا سمعنا عنه الكثير، خصوصا بعد التحول الكبير الذي طرأ عليه إثر الثورة المظفرة التي قادها الإمام الخميني من منفاه الباريسي.
أكثر ما جذبنا في تجوالنا تلك المساحات الخضراء الشاسعة التي تغلف العاصمة طهران، بحيث ترى الأشجار والأعشاب تتوزع على جانبي الطرقات، فيما عمال متخصصون يتولون تشذيب العشب ووضع ما يجمعونه في أكياس سرعان ما يلتقطها آخرون ويحملونها في شاحنات صغيرة أحضرت لهذه الغاية.
“المكتوب يُقرأ من عنوانه” كما يقال. و”المكتوب” المقصود هنا هو حرص الايرانيين ألا يدعوا منطقة في مدينتهم كاحلة. ومن هنا مازح الدليل السياحي وفدنا، الذي كان يصغي له باهتمام، قائلا “الصيت لتونس المسماة خضراء لكن الفعل لنا في طهران”. وأعتقد ان هذا صحيح. وقد شاهدت بأم العين، كما وأكاد أجزم، بأنني وقد زرت تونس العام الماضي، لم أرَ خضارا في أرجائها كما هو موجود في طهران. واذا ما ابتعدنا عن السياحة احيانا واردنا التعرف على الجانب السياسي للانسان الايراني لجاءني الجواب سريعا من مسؤولين ومواطنين ومضيفين في الفندق: “نحن اول دولة في العالم ترفع علم فلسطين على سفارة تحمل اسمها بعد ان نزعنا عنها الصفة الاسرائيلية وطردنا طاقمها الى غير رجعة“.
يكفي ان تسمع هذه الكلمات لتدرك انك امام شعب انتفض على نفسه وعقد العزم على إيلاء القضية العربية الأم العناية اللازمة.
كان ذلك كما ذكرت في العام 1998. وبالأمس القريب، الأسبوع الماضي تحديدا، عدت الى طهران في زيارة رسمية هذه المرة، وبدعوة من وزارة الصحة لأجد أولا أن الخضار ما زال على حاله وربما كثٌر بعض الشيء. لكن الأحوال تبدلت بفعل تدني سعر صرف الريال الايراني الذي كانت ورقة من صنف الأربعين ألفا تعادل دولارا في العام 1998، فأضحى الدولار اليوم يساوي مائة وعشرين الف ريال ايراني. وفي هذا فارق كبير لابد ان ينعكس على الحركة المعيشية والشرائية للمواطن. ويكفي ان أذكر على سبيل المثال مستعينا بالتنباك العجمي، المرغوب من شرائح واسعة من اللبنانيين، هواة “النارجيلة”، حيث بات سعر نصف كيلوغرام منه لا يتجاوز الأربعة دولارات اليوم، بينما كان السعر قبل سنوات يتراوح بين عشرين وخمسة وعشرين دولارا. وسعر التنباك المتدني هذا ينسحب على بقيه السلع دون استثناء وعلى الملبوسات والعقارات وغيرها من الأمور والمتطلبات. لكن على الرغم من ذلك بقي الايراني صلبا من دون أن يعني هذا بأنني لم ألمس معالم تململ في النفوس طُرِحت معه تساؤلات عن خطة الحكومة لمواجهة هذا الوضع الصعب الناحم عن عقوبات أميركية صارمة فٌرضت على الجمهورية الاسلامية الايرانية.
قبل ان اتابع حديثي أود الاشارة بأنني لست في وارد الغوص في السياسة الايرانية. فهذا ليس مقصدي مع علمي بأن هناك المعارض والمؤيد لها. فما أود الاضاءة عليه هو ذلك التقدم الهائل الذي لمسته في زيارتي الأخيرة لطهران والتي أمضيت أيامي الخمسة فيها أزور المعامل والمصانع المنتجة والمصدرة للأدوية، مع الاشارة الى أنك في الطريق الى تلك المصانع والقريب منها، يبعد اكثر من ساعتين عن العاصمة، لا بد ان تضيف اللون الابيض بعد الاخضر الى ناظريك المتمثل بالسيارات الصغيرة الحجم المصنعة في ايران، التي تجوب الطرق والاوتوسترادات بانتظام من دون “زمور” الا فيما ندر.
داخل المصنع، الذي توازي مساحته منطقة “الضم والفرز” عندنا، ترى الانضباط ماثلا امام عينيك والهدوء مخيم في كل مكان. لا أثر لضجيج مع وجود خمسمائة شخص بين طبيب واختصاصي وصيدلاني وعامل. أما الاقسام فموزعة بعناية فائقة بدءا بتحديد نوع الدواء وانواعه واعداده والتدقيق في سلامته وجودته، ومن ثم تعميم العينة على المراكز المولجة تصنيعه، وبعد ذلك بفحصه والتأكد من مطابقته للمواصفات الطبية التي أعدت له، قبل ادخاله في علب (للكبسولات) أو في زجاجات (للسوائل) أو في حقن، يُصار بعد ذلك الى وضع الكمية أو الكميات المنتجة في صناديق تنقل الى قسم الشحن ومن هناك يتم توزيعها على النقاط المطلوب تسليمها لها..
ما أوردته معتمد في عمل مختلف مصانع الأدوية بالتأكيد. لكن ايران تقدمت على دول عدة في هذا المجال، وباتت تنتج 96% من كافة أنواع الأدوية. أي أنها لم تعد بحاجة لاستيراد أدوية من أي كان، باستثناء ما يتعلق بالـ 4% وهي تخص أمراضا سرطانية محددة جدا وغيرها من الأمراض المستعصية. أما ما تبقى فلدى ايران اكتفاء ذاتي حيث تملك ما لا يقل عن 400 مصنع أدوية وتصدِّر لأكثر من ثلاثين دولة بينها روسيا وتركيا وسوريا وأفغانستان وباكستان…
مناسبة الحديث عن الأدوية في ايران والمصانع المخصصة لها تأتي بالتزامن مع استعداد “حزب الله” لتولي وزارة الصحة في الحكومة اللبنانية الجديدة المنوي تشكيلها، وتلويح الولايات المتحدة الأميركية بوقف مساعدتها للوزارة المذكورة البالغة 65 مليون دولار، الأمر الذي رد عليه مساعد وزير الصحة الايراني د.غلام رضا أصغري لدى سؤاله عما سيكون عليه موقف بلاده إزاء هذا التصرف بالقول: “نحن على استعداد لتعويضكم عن هذا المبلغ وأكثر، وتزويدكم بكل ما تحتاجونه من أدوية بأسعار خيالية“.
● كلمة لا بد منها: شكرا من القلب للسيدة الحاجة رنا الساحلي، مسؤولة قسم العلاقات الإعلامية في” حزب الله”، على الرعاية الطيبة التي أحاطت بها الوفد الإعلامي اللبناني، المنتقى بعناية، قبل السفر وخلاله وحتى العودة إلى بيروت. وقد أشرفت وواكبت تفاصيل تفاصيل برنامج الزيارة، وكان لها عظيم الفضل في نجاحها.يكفي القول بأنها كانت العين الساهرة على الجميع. ولم يكن يهدأ لها بال ولا حركة حتى تطمئن بأن كل فرد منا بخير وقد أتيحت له كل التسهيلات لأداء مهمته على أكمل وجه.
موقع الانتشار