فايز رشيد يكتب لـ”الهدف”..ربع قرن على اتفاقية أوسلو.. الكارثة واللعنة د.فايز رشيد
على أبواب مرور ربع قرن على اتفاقية أوسلو المشؤومة والكارثية ,يمكننا القول, لقد صدقت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في تحليلها الجذري الرافض لهذه الاتفاقية وتداعياتها جملة وتفصيلا, وفي توقعها لما ستؤول إليه من نتائج حالية , نراها في بنود مشروع “صفقة القرن” الصهيو- أمريكية التصفوية. ولولا توقيع اتفاقية أوسلو ,لما تمادى العدو الصهيوني في ما اتخذه من خطوات تهويدية للقدس ومحيطها, ومضيه قدما في سرقة ومصادرة أراضي الضفة الغربية من أجل لاستيطان المتعاظم سنويا,والذي لا ينتهي وغير المحدود بزمن , ولما جرؤ على سنّه لـ “قانون القومية” العنصري , ولما قام بالكثير من الخطوات العدوانية الأخرى. لولا اتفاقيات أوسلو لما استطاعت الإدارة الأمريكية الحالية المتصهينة اتخاذ قرار بالاعتراف بالقدس الموحدة عاصمة أبدية للكيان الصهيوني, ولما تجرأت على اقتراح صفقة القرن , ومحاولة شطب “حق عودة اللاجئين الفلسطينيين ” وفقا لقرار الأمم المتحدة رقم 194. لولا اتفاقيات أوسلو لما تجرأ نظام رسمي عربي واحد على نسج علاقات وروابط واتفاقيات علنية مع دولة الكيان الصهيوني, وصولا إلى الحد الذي أصبح فيه الاغتصاب الصهيوني لفلسطين التاريخية “حقّا مشروعا لليهود وللحركة الصهيونية” بما يعنيه ذلك من “بطلان” للتاريخ العربي الفلسطيني! وتسويغ للأساطير التضليلية الصهيونية, والرواية الإسرائيلية الكاذبة, و”بطلان” للرواية الفلسطينية العربية لفلسطين الأرض والتاريخ والحضارة, فلسطين العربية الكنعانية اليبوسية الأصيلة. هذه نتف حاضرة في مرحلتنا الحالية ,وهي غيض من فيض لعنة نداعيات هذه الاتفاقية الخيانية للأرض, للتاريخ والحغرافيا والمشروع الوطني التحرري الفلسطيني, ولحقوق شعبنا الوطنية. الاتفاقية وما تلاها من اتفاقيات فرعية أخرى, هي تنازل رسمي من قبل البعض الرسمي الفلسطيني عن كافة حقوق شعبنا الوطنية , واختزالها في حكم ذاتي هزيل منزوع السيادة والصلاحيات, وإجبار لسلطة الحكم الذاتي على أن تكون حارس أمن للمحتلين ,من خلال ما فرض على الجانب الفلسطيني من تنسيق أمني مع دولة الكيان الصهيوني وأجهزتها الأمنية. يذهب الباحثون إلى مكتبة وزارة الخارجية النرويجية (مثلما فعل خبير القانون الدولي المحامي الفلسطيني أنيس فوزي القاسم وغيره كثيرون) لمراجعة بنود الاتفاقية وملحقاتها ,فلا يجدون شيئا! لأنها ولسوئها وظلمها لشعبنا , ولتحقيقها مكاسب وفوائد عظيمة للدولة الصهيونية, بقيت وستظل سريّة, لن يفرج عنها مطلقا .
اتفاقية أوسلو هي أول اتفاقية (تشمل 8 اتفاقيات فرعية) رسمية مباشرة بين دولة الكيان الصهيوني ومنظمة التحرير الفلسطينية, من خلال إعلان مبادئ ورسائل متبادلة, شكّلت نقطة فارقة في شكل العلاقة بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الكيان , التزمت بموجبها م. ت. ف على لسان رئيسها ياسر عرفات بحق دولة “إسرائيل” في العيش في سلام وأمن, والوصول إلى حل لكل القضايا الأساسية المتعلقة بالأوضاع الدائمة من خلال المفاوضات, وأنّ إعلان المبادئ هذا يؤسس لحقبة خالية من “العنف”, وطبقاً لذلك, فإن منظمة التحرير تدين استخدام “الإرهاب” وأعمال”العنف” الأخرى, وستقوم بتعديل بنود الميثاق الوطني للتماشي مع هذا التغيير, كما سوف تأخذ على عاتقها إلزام كل عناصر أفراد منظمة التحرير بها, ومنع انتهاك هذه الحالة وضبط المنتهكين. الاتفاقية تضمنت أيضا: أنه في ضوء التزامات منظمة التحرير الفلسطينية تلك… اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل للشعب الفلسطيني, وبدء المفاوضات معها. كما وجه ياسر عرفات رسالة إلى رئيس الخارجية النرويجي آنذاك يوهان هولست, يؤكد فيها: أنه سيضمّن بياناته العلنية موقفاً لمنظمة التحرير تدعو فيه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى الاشتراك في الخطوات المؤدية إلى تطبيع الحياة, ورفض العنف, والإرهاب ,والمساهمة في السلام والاستقرار, والمشاركة بفاعلية في إعادة البناء والتنمية الاقتصادية والتعاون في المنطقة. كما نصّ إعلان المبادئ على إقامة سلطة حكم ذاتي انتقالي فلسطينية (أصبحت تعرف فيما بعد بالسلطة الوطنية الفلسطينية) في الضفة الغربية وقطاع غزة, لفترة انتقالية لا تتجاوز الخمس سنوات… يتم خلالها انتخاب مجلس تشريعي.. على طريق الوصول إلى تسوية دائمة بناء على قراري الأمم المتحدة 242 و338.. بما لا يتعدى بداية السنة الثالثة من الفترة الانتقالية. وقد نصت الاتفاقية, على أن هذه المفاوضات سوف تغطي القضايا المتبقية لاحقاً, بما فيها… القدس, اللاجئين, المستوطنات, الترتيبات الأمنية,الحدود, العلاقات والتعاون مع جيران آخرين…. فهذه سيتم التفاوض عليها بين الجانبين مستقبلاً. كما نصّ إعلان المبادىء ,على أنه تبَعَ هذه الاتفاقيات المزيد من الاتفاقيات والمعاهدات والبروتوكولات مثل اتفاق غزة –أريحا, وبروتوكول باريس الاقتصادي ,اللذين تم ضمهما إلى معاهدة تالية سميت بـ “أوسلو 2 “.
إن من هيأ اتفاقية أوسلو ومن وقّعها , لا ولم يقرأ حقيقة المشروع الصهيوني لا في فلسطين ,ولا في المنطقة العربية عموما, وهو لم ولا يعرف شيئا عن موازين القوى مع الأعداء, ولا يعرف أصول التفاوض ,ولا القوة الداعمة لها ومحركها في الميدان . في أجواء مباحثات أوسلو , لم يعرف المفاوض الفلسطيني, تفاصيل جغرافيا بلده الفلسطينيني. حتى أن الجانب الفلسطيني استعان بخبراء خرائط مصريين يعرفون المناطق الفلسطينية, التي كان يجهلها المفاوضون الفلسطينيون . من وقّع الاتفاقيات لم يعرف تحولات شارع عدوه, لا نقاط ضعفه وثغراته ولا مواطن قوته. لذا, دعونا نستعرض ما قاله بعض قادة العدو عن توقيع هذه الاتفاقية المهزلة. رابين قال في خطابه عندما ناقش الكنيست اتفاقية أوسلو عام 1993 , ” لقد وقّعت الاتفاقية ووافقت على دخول آلاف المخربين إلى المناطق, لأحكم قبضتي عليهم, وكي لا نكون بعيدين عن قرارهم السياسي”! التصريح بالطبع يعني ما يعنيه , ومن الأهم قراءة ما بين سطوره. أيضا نشرت صحيفة “يديعوت أحرونوت” (10 مارس/آذار 2018) مقاطع مُختارة من كتاب بعنوان “لا مكان للأحلام الصغيرة” الذي يتضمن السيرة الذاتية لرئيس دولة الاحتلال السابق شمعون بيريز ,الذي لم يتمكن من نشره في حياته ,وتعمل عائلته حاليا على إصداره. تقول الصحيفة “يعتقد بيريز إن أهم حدث في ترسيخ إسرائيل كدولة في المنطقة, هو اتفاق أوسلو الذي تمّ التوقيع عليه بين الحكومة الإسرائيليّة وبين منظمّة التحرير الفلسطينيّة في أيلول/سبتمبر عام1993 “. يسمون بيريز “الثعلب” ,بالفعل هو مهندس اتفاقيات أوسلو, ومشروعه للشرق الأوسط الكبير (الجديد) طرحه في كتابه الذي يحمل ذات الإسم, ويدعو فيه إلى تزاوج العقل اليهودي بالأموال العربية. أما إسحق شامير فقد صرّح في مباحثات مدريدعام 1991 قائلا “سنطيل المفاوضات مع الفلسطينيين عشرين عاما” , وبالفعل هذا ما حصل. الاتفاقيات تركت القضايا الأهم في البحث لما سميّ بمباحثات الوضع النهائي. وفي هذا المجال نذكر تصريحا للرئيس الجنوب أفريقي نلسون مانديلا ( وهذا ما أكده في مذكراته بعنوان “رحلتي الطويلة من أجل الحرّية”) قال فيه:” لقد نصحت الرئيس عرفات ببحث القضايا الأساسية أولا ,والوصول إلى اتفاق تقبلون به حولها, وم ثم يجري التوقيع, ونصحته أيضا بعدم ترك الكفاح المسلح, لأننا مارسنا هذا مع نظام الفصل العنصري“.
في ذكرى ربع قرن على توقيع اتفاقية الشؤم والعار , نتساءل عن خلفية الثقة العمياء للجانب الرسمي الفلسطيني عند توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993, بأن دولة الكيان ستوافق حتما على إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة؟, رغم كل المقدمات التي وشت عكس ذلك, ولعل أهمها : ضم القدس المحتلة إلى إسرائيل في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967, فرض الحقائق الإستيطانية على الأرض, المنادة الإسرائيلية بـ “حكم ذاتي” فقط للفلسطينيين وغير ذلك من الأحداث ذات الدلالة على صحة ما نقول. لقد تم قطع الطريق على الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي بدأت عام 1987, والتي لو قُدّر لها الاستمرار, لحولّت مشروع إقامة الدولة الفلسطينية من إمكانية نظرية إلى أخرى واقعية, وهنا يتوجب التدقيق في كيفية استثمار النضالات الجماهيرية في الخطوات السياسية المتخذة. فالاستثمار السياسي مرهون بقانون استغلال النضال لصالح المشروع الوطني وليس لدفعه عكسيا! بالمعنى الفعلي عندما أعاد شارون اجتياح الضفة الغربية عام 2002, أعلن رسميا حينها “بأن اتفاقيات أوسلو قد ماتت”. لقد كان الهدف الإسرائيلي- الأمريكي للعدوان الصهيوني على لبنان عام 1982 ,يتمثّل في ضرب المقاومة الفلسطينية وإخراجها من أراضيه, وتوزيعها في الشتات , وهذا ما جرى فعلا . ثم كانت اتفاقية كمب ديفيد بين مصر وإسرائيل, وهو ما وشي بقيام ضغوطات رسمية عربية على الجانب الرسمي الفلسطيني لانتهاج ذاك الطريق. نسأل أيضا عن خلفية ثقة القيادة الرسمية الفلسطينية بأن الولايات المتحدة ستكون وسيطا نزيها في الصراع الفلسطيني العربي – الصهيوني؟, وهذا مجاف للواقع, لذلك جرى تعديل الميثاق الوطني الفلسطيني في دورة المجلس الوطني الـ 21 في غزة عام 1996 بحضور الرئيس بيل كلينتون, الذي أصر كما إسرائيل على شطب هدف تحرير فلسطين من النهر إلى البحر, و إزالة كل البنود المتعلقة بالكفاح المسلح, من الميثاق.
في خلفية اتفاق أوسلو ينبغي الإشارة إلى أن كلاً من الكيان الصهيوني وحليفته الأمريكية والغرب (عدد من الدول الأوروبية) اتجهوا لصنع تسوية على أساس الشروط لإسرائيلية, وإلا فلا تسوية. وفي المقابل أظهرت أغلب الحكومات العربية، ومعها قيادة م.ت.ف. هشاشة لا مثيل لها في الرضوخ للضغوط الأمريكية بشكل استمر حتى الوقت الراهن.إن خطورة الزاوية التي فتحها اتفاق أوسلو, تحمل أبعاداً مستقبلية خطيرة تتعدى ما يمكن أن يسجل على الجانب الفلسطيني ما قدمه من تنازلات, لا تمس الحقوق والثوابت والتاريخ والمخزون القومي والنفسي فحسب, ولا ما حمله من مخاطر مثل بقاء الاحتلال والمستوطنات وتكريس ضم شرقي القدس إلى دولة العدو فحسب, بل أيضاً تحمل أبعاداً تمس الأمن القومي العربي وتهميش البعد القومي العربي للقضية الفلسطينية…. وهذا ما أدى إلى نشوء معارضة شعبية عربية واسعة للاتفاق. إلا أن الإشكال الأساسي للمرحلة المقبلة سيظل, وفقاً لانعطافة اتفاق أوسلو, متمثلاً في صراع سياسي فلسطيني- فلسطيني حادّ على مستوى الفصائل فيما يتعلق بنمط العلاقة الفلسطينية – الإسرائيلية.
لم يكن من المتوقع أن يخرج اتفاق فلسطيني- إسرائيلي عن “الحكم الذاتي” وأن يكون أقل سوءاً من الاتفاق الذي جرى عبر مفاوضات سرية في أوسلو،. فمن يعيد خطابات الدعوة إلى مؤتمر مدريد وما حدّد فيها من أسس للمفاوضات الثنائية المباشرة, كان أمامه أحد احتمالين: إما الدوران في مفاوضات طويلة جداً, وإما اتفاق غاية في السوء مثلما جاء عليه. ثمة عاملان متكاملان أخرجا اتفاقية أوسلو: الأول: إصرار إسرائيلي ودولي على صياغة اتفاقٍ على شكل نوع هزيل من “الحكم الذاتي” وفقاً للشروط “الإسرائيلية” بالكامل, والثاني قبول تدريجيّ بتلك الشروط، وقد عُجِنَت الاتفاقية بالوهن والعجز حتى لو كان ثمن ذلك… التفريط بأنبل الحقوق, وأقدس القضايا,وبالأمن القومي والمصالح العليا.
إن أقصى ما تنتجه هذه الاتفاقية: نوع من الحكم الذاتي,وانسحاب الجيش (إعادة تموضع) من المناطق الآهلة بالسكان, وتسليم الأمن فيها للشرطة الفلسطينية، وبهذا إعفاء للاحتلال من الاصطدام بالفلسطينيين,مع بقائه مسيطراً على الوضع عموماً, وممسكاً بكل النقاط الاستراتيجية على كل الحدود, وفي كل النقاط المشرفة, وفي الطرقات الواصلة فيما بين المدن والقرى. وقد أعطي الجيش الإسرائيلي ,حق العودة إلى احتلال كل منطقة سكانية تحت الحكم الذاتي, إذا فشِل الأخير في المحافظة على أمن الاحتلال الإسرائيلي فيها ومنها. أما تسليم إدارة الحكم الذاتي, شؤون التعليم والصحة والبلديات والسياحة فهو إعفاء للاحتلال من الإنفاق على تلك المجالات, التي هي الجانب السلبي بالنسبة إلى كل احتلال. الذين وقّعوا الاتفاق, أو أيدوه, لم يستطيعوا أن يقدموا نقطة واحدة يعتبرون فيها, أن الاتفاق تضمّن زوالاً نهائياً أو تدريجياً للاحتلال, ولو عن بقعة واحدة, أو استعادة لسيادة على أرض حتى ولو على شبرٍ واحد, فكل ما يتعلّق بزوال الاحتلال, أو السيادة على المناطق التي ينسحب منها الجيش أو وضع المستوطنات التي أقيمت في الضفة الغربية. وهذه التي اعتبرت دوما بأنها غير شرعية, أصبحت الآن واقعاً مسلماً به وتحت سيادة الكيان الصهيوني. وقبل أن يكون أمنها ذاتياً لا علاقة للإدارة الفلسطينية به. الأهم أنه تم الالتفاف على قضية القدس ومصيرها وقضايا العودة.. ولا نتحدث عن “الحقوق في كل فلسطين”. بالطبع من خلال تأجيل بحثِ حتى المواضيع النهائية في ظل وجود دولة إسرائيل , تم تأجيل تلك المواضيع لمرحلة قادمة, أي ترك مصيرها لما يمكن أن يتفق عليه الطرفان, من دون أن تكون هنالك مرجعية ملزمة لزوال الاحتلال! وفي ظل وضوح مواقف الكيان الصهيوني منها.!.
يشكل الاتفاق بالفعل الاعتراف الفلسطيني “الرسمي” بحق إسرائيل في اغتصاب فلسطين ومنحها الشرعية التي طالما افتقدتها, رغم الدعم والتأييد الدوليين ورغم ما تتوفر عليه ترسانتها الحربية المُتفوِقة من أدوات قتل وإجرام وتنكيل وقمع وتدمير, وكل ما يخطر على بال القتلة أن يفعلوه بضحيتهم….وكان أن ابتهج الذين دبّرو الاتفاق وأداروا مفاوضاته بسرّية وتكتُم وإطلاق بالونات اختبار عن احتضار منظمة التحرير , وإغلاق دائرة العزلة من حولها ,والاستقالات التي ظهرت فجأة بين صفوف لجنتها التنفيذية, وقرب تأبينها وتحويلها إلى مجرد حطام وذكرى…. هؤلاء… ابتهجوا عندما انتزعوا من اسحق رابين وحكومته اعترافاً بمنظمة التحرير (وليس بدولة فلسطينية) وخرجوا على الناس يُفسّرون الأمور على هواهم! ويُبشرون بالنصر القريب وبالحرية للشعب الفلسطيني وبعودة اللاجئين, وغيرها من الوعود الجميلة التي وجدت – للأسف – مَنْ يصدقها ويروّج لها ويبني عليها آمالاً, لم تلبث – في اختبار النتائج – أن تهاوت وسقطت بعد أقل من خمس سنوات على ذلك اليوم الحزين (13 سبتمبر/أيلول 1993) الذي جرت فيه حفلة تسويقه إعلامياً, وتكريسه سياسياً , وإضفاء الشرعية عليه, في حديقة الورود بالبيت الأبيض الأمريكي, حيث استلحق بيل كلينتون نفسه, ليكون عرّاب الاتفاق ,والتواطؤ لتنفيذه, رغم كل الإجحاف الذي ألحقه بالشعب الفلسطيني, والذي كان لسوء الحظ ومكر الأعداء- فلسطينيو المنظمة – هم من اقترفوا هذه الجريمة بحق شعبهم الذي لم يبخل عليهم بالدعم والتأييد ,ورفد مقاومتهم بالشباب والمتطوعين, والأموال ,والتفهم لمناوراتهم وأحابيلهم الإعلامية والسياسية, والتي لم تتوقف ذات يوم أو ذات مرحلة.
يقف شعبنا الفلسطيني بعد ربع قرن على مرور اتفاقية أوسلو , ويستذكر كيف رقص فيه أصحاب أوسلو ورجال المنظمة طرباً بأنهم نالوا الاعتراف وباتوا أصحاب شرعية, وأن قطار العودة قد انطلق, وأن الدولة بالفعل باتت على “مرمى حجر” فإذا بكل ما دُعينا للحلم به أو الأمل بحدوثه, غدا سراباً وأوهاماً, وأن ما كان لدينا من أراضٍ (حتى لو كانت مُحتلة) قد تراجع وتحول إلى مستوطنات.نعم,السنوات الخمس الأولى على الاتفاق الذي كان يُفترض أن تُنهي المرحلة الانتقالية, كي يتم الانتقال إلى “صيغة الدولة”, تم شطبها واستأنف المحتلون ماراثون المماطلة والتسويف, بل نجحوا في إيقاع المفاوض الفلسطيني واستدراجه للتوقيع على اتفاق باريس الاقتصادي الذي أجهز على الاقتصاد الفلسطيني الهش والضعيف والمربوط قسراً باقتصاد الاحتلال الأقوى والأحدث, ما زاد من ارتهان سلطة أوسلو وإرغامها على توسل الاحتلال والخضوع لشروطه, كي تحصل على عائداتها من الجمارك والضرائب, وليستعملها الاحتلال وسيلة للابتزاز.
هل نتحدث عن تقسيمات أراضي الضفة بين “A” التي هي “اسمياً” خاضعة أمنياً وإدارياً للسلطة, أم المنطقة “B”الخاضعة إدارياً للسلطة وأمنياً للكيان الصهيوني ! أم نتحدث عن تلك المُصنّفة “”C حيث لا علاقة للسلطة بها أمنياً أو إدارياً. وهي تشكل 60% من مساحة الضفة وتتركز فيها أغلبية المستوطنات, بل ثمة دعوات “إسرائيلية” يمينية متطرفة يمثلها “حزب البيت اليهودي” بزعامة الوزير المُستوطن نفتالي بينيت وغيره من الفاشيين المتطرفين الصهاينة, تدعو إلى ضم المنطقة “C” ومنح الجنسية الإسرائيلية” لسكانها (وهم بالمناسبة لا يُشكلون نسبة تذكر مقارنة بعدد سكان الضفة الغربية).
يطول الحديث عن الجريمة المُسماة بـ “اتفاقية أوسلو” ولهذا لم يعد الحديث يدور حول ذكراه البائسة, لأنه بالفعل كان خطيئة كبرى وجريمة موصوفة بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه غير القابلة للتصرف, وكل ما يقال عن عودة ربع مليون فلسطيني من مسؤولي المنظمات والفصائل الأخرى وعائلاتهم, ليس سوى ذر للرماد في العيون, وخصوصاً في القول إن قيام السلطة مكسب للشعب الفلسطيني لا يجوز التفريط به.الذين حاولوا الدفاع عن اتفاق أوسلو كانوا يحتجّون بالسؤال: “وما بديلكم؟”…ونرد:بالتساؤلات: أليس الاحتلال الفاشي الذي يقاومه الفلسطينيون والمكلّف للعدو أفضل من الاحتلال “النظيف” المدفوع الأجر والمعترف بشرعيته والمدعوم دولياً (بفعل الاتفاقية) ؟ من الأفضل والأجدى أن يكون العدو مغتصباً خير من أن يُعترف بحقّه في الوجود. عندما دخل الشعب الفلسطيني في النصف الثاني من الأربعينات, وخاض الصراع لمقاومة قيام الدولة الصهيونية و للمحافظة على بقاء المقاومة متأجّجة,والقضية حيّة, واجه أوضاعاً أشدّ سوءاً مما يواجهه اليوم. وكان الجواب الصحيح دائماً هو التوجّه لمعالجة الخلل في الوضع الفلسطيني والعربي , وليس في التسليم للعدو تسليماً يضيّع القضية ويفتِك بها.لا أمل للفلسطينيين في مواجهة عدوّهم أو في معالجة قضيتهم, تحت أيّ ظرفٍ من الظروف, إلا في دفن أوسلو وتمزيقه, أما الانكفاء على الذات. والقبول بما يمليه العدو, فهو خطيئة كبرى بحقّ الشعب وحقّ القضية والأمة, ونكبة جديدة.
إنه الاتفاق الكارثة,والذي لا بد من أن تتضافر الجهود لتعبئة رأيٍ عام فلسطيني وعربيّ دائم…من أجل تمزيقه كما سبق وأن مُزّقت كلّ المعاهدات الاستعمارية الظالمة التي فرضت على أقطارنا العربية بعد الحرب العالمية الأولى.إن سؤالاً طبيعياً يظهر في الواقع… قبل سؤال مجموعة التفاوض الفلسطيني, حول إنجازات اتفاق الخطيئة السياسية ,وهم بذلك يظهرون غير معتبرين بالتاريخ ولا بالجغرافيا, ولا بدلائل الواقع وحركة الشعوب.. إن “أوسلو” وبعد ربع قرن ً تضع هؤلاء الذين لم يمثلوا إرادة الفلسطينيين المناضلة والحرة… على لائحة الاتهام الدائم, بما اقترفوه من إثم بحق شعبنا ونضالنا وتاريخنا وقضيتنا الوطنية وحقوق شعبنا.