مشكلة التشكيك في التجربة الفلسطينية-منير شفيق
التشكيك في حماس، أو الريبة في ما قد تنتهي إليه، أصبح كالمرض عند البعض، وغدا غرضاً عند بعض آخر، أو خوفاً من خضوعها للتهديدات أو الوقوع في المغريات لدى بعض ثالث. وقلة من العاملين بالسياسة أو النشطاء من يثقون باستمرار تمسكها بالثوابت، فلا يشكّون، ولا يرتابون، ولا تأخذهم المخاوف كل مأخذ، علماً أن الثقة يجب أن تكون يقظة على الدوام. واليقظة هنا غير التشكيك.
هذه الظاهرة بمختلف تلاوينها لاحقت قيادة فتح منذ إعلان انطلاقتها مروراً بقيادتها لمنظمة التحرير، والفارق الوحيد كان انتشار ظاهرة التشكيك والريبة والمخاوف داخل فتح نفسها أيضاً، ولم يقتصر على من هم خارجها. والفارق الثاني أن كل تشكيك وريبة ومخاوف في فتح تحقق توقعه في اتفاق أوسلو؛ بما لا يقبل تأويلا.
بل إن التجربة مع عدد من فصائل “م.ت.ف” ومستقليها؛ وصلوا بدورهم إلى النهاية المتمثلة باتفاق أوسلو أو بما يشبهها، أو الدوران من حولها، بشكل أو بآخر، ولكن من دون أن تلاحقهم الشكوك مقدَّماً. ولذلك أصبح حال كثير في الساحة الفلسطينية مثل حال الذي لدغته حيّة، فغدا يرى جرة الحبل حيّة تسعى. وهذا من سوء طالع حماس حين أصبحت في موقع قيادي فلسطيني، حيث جاءت بعد التجربة المريرة لفتح و”م.ت.ف”، والنهاية بأوسلو. أي جاءت بعد الذين لدغوا من الحيّة، فصاروا يرون كل جرة حبل حيّة تسعى، أو يتخوفون من أن تكون كذلك. وهذه ظاهرة عامة ندَرَ من ينجو منها.
ومن هنا يَحسن التوقف عند تجربة التشكيك والارتياب والمخاوف مع فتح وأغلب قيادة “م.ت.ف“.
والسؤال: هل ما قام من تشكيك وارتياب في قيادة حركة فتح، ولا سيما داخلها، كان مصيباً في استباقه ما حدث بعد عشرين عاماً؟ وقد فتح معارك جانبية كثيرة ضدها، أو ضد قيادتها، وقد وصل إلى حد “الانشقاق” الكبير في العام 1983، ووصل بمجموعة صبري البنا “أبو نضال” إلى الدخول في حرب اغتيالات مع قيادة فتح ابتدأت في المنتصف الثاني من سبعينيات القرن العشرين.
من حيث الحكم السريع، يبدو الذين شككوا وارتابوا ودخلوا في معركة جانبية؛ بأنهم الأصوب موقفاً، والأبعد نظراً، ما دامت قيادة فتح، ومعها كثيرون قد انتهوا إلى ما انتهوا إليه في اتفاق أوسلو، وما بعد اتفاق أوسلو.
ولكن ثمة مسافة ممتدة إلى عشرين عاماً كانت فيها فتح وقيادتها في مواقع المقاومة والقتال، قبل أن تصل إلى ما وصلته في اتفاق أوسلو. والسؤال هنا: ما هي السياسة الأصح في إدارة الصراع طوال العشرين عاماً المذكورة قبل أن يقع المحظور الكارثي؟ وبناء عليه: هل يُعامَل على مدى عشرين عاماً باعتباره واقعاً قائماً قبل أن يقع، ومن ثم يُصار إلى خوض المعارك كأنه واقع؟ أي أن تُعامَل قيادة فتح بالعدائية والقطيعة، الأمر الذي يؤدي بالضرورة إلى إضعاف المقاومة والقتال من جانب طرفيْ الصراع. وذلك بالضرورة، وحتى لو كانت النيات عكس ذلك؛ لأن المعارك الداخلية حين تحتدم تستأثر بالأولية، أو تُنافس المقاومة والقتال على الأولوية.
كانت الحجة الأولى لسياسة التشكيك والارتياب، بل الوصول بها إلى العدائية والقطيعة، تقوم على أساس منع قيادة فتح من الوصول إلى تلك النهاية الكارثية، فيما المبادرة في الصراع، حتى الداخلي، وفيما ميزان القوى كانا في مصلحة قيادة فتح فلسطينياً وعربياً ودولياً، مما يجعل حجة منع القيادة من الذهاب إلى ما انتهت إليه؛ تقديراً خاطئاً للموقف، وذلك ما دام الاحتكام إلى ما أثبته الواقع لدعم صحة التوقعات التي قامت على التشكيك وصولاً إلى العدائية والقطيعة. فالواقع نفسه أثبت عدم صحة الوصول إلى العدائية لمنع القيادة من المضيّ في خطها الذاهب إلى الكارثة. فالتسويغ الذي كان وراء ما جرى من معارك داخلية جانبية، أي منع المتوقع المحظور، أثبت فشله الواقعي. بل وصل المحظور الواقعي (اتفاق اوسلو وما بعده) إلى أسوأ من كل تقدير طرحه تشكيك طوال العشرين عاماً.
كان الخيار الآخر، وربما بتلاوين مختلفة، يستطيع أن يذهب إلى المحافظة على وحدة المقاومة والقتال مع فتح وقيادتها، ما داما يمارسان المقاومة والقتال. بل وعبر خوضهما حروباً قاسية، يؤدي إلى تصعيد المقاومة والقتال ضد العدو، ولا ينشغل الجميع في معارك جانبية، أو يذهب بهم إلى اهتزاز الأولوية، ولو موضوعياً، ولكن مع الإعلان عن الاعتراض على كل تنازل أو أية خطوة باتجاه التسوية. فالتناقض هنا يحصر تحت سقف الوحدة.
صحيح أن هذا الخيار ما كان له أن يمنع القيادة، ومن أيدها، من الوصول إلى كارثية اتفاق أوسلو؛ لأن هذه الإشكالية ليست داخلية فحسب، وإنما أيضاً، كانت مرتبطة، بالدرجة الأولى، بموازين القوى فلسطينياً وعربياً وإقليمياً ودولياً. ولكن هذا الخيار كما أثبت جزئياً، كان سيؤدي إلى نتائج أهم في المقاومة والقتال ضد العدو، لو كان خطاً سياسياً أعم وأوسع. وهذا البعد مهم جداً من الناحية الاستراتيجية لانسجامه مع أولوية المقاومة والقتال ضد العدو. وبالمناسبة من الصعب، إن لم يكن من الخطأ، محاسبة قيادة مقاومة على ما ستفعله، قبل أن تفعله، أو، وهي ما زالت في مواقع المقاومة والقتال. فالسياسة التي تستند إلى المخاوف، أو إلى التوقعات، أو إلى بعض المؤشرات غير الكافية، أو إلى معلومات سرية لا برهان واقعياً على صدقيتها، تظل سياسة ضعيفة، وتسمح للمتهم بأن يتهرب منها أو يكذبها. ولا مسوّغ لها لو “صدقت” بعد ردح من السنين، ناهيك عن ويلات قد تقع قبل أن يأتي يومها الموعود. هذا وقد سبق للمتنبي أن قال: “وكنْ فارِقاً بينَ دَعوَى أرَدتُ وَدَعوَى فَعَلْتُ بشَأوٍ بَعيدِ“.
ومن هنا، فإن الاتعاظ بالتجربة الفلسطينية التاريخية مع فتح وقيادتها، وما نشأ من سلبيات بسبب استعجال الصراع العدائي، والمعارك الجانبية قبل أوانهما، يجب ألاّ يتكرر مع حماس، بالرغم من الفارق بين الحالتين، وبالرغم من أن التاريخ لا يعيد نفسه كقانون عام. فعلى سبيل المثال، ذاك التشكيك الذي لاحق تجربة المقاومة والقتال في قطاع غزة، بقيادة حماس، وبرغم مشاركة الجهاد، وصل إلى عدم الاعتراف بوجود قاعدة مقاومة مستعصية على العدو، ثم تجاهل هزيمة الجيش الصهيوني في ثلاث حروب 2008/2009 و2012 و2014.
وعندما ذهب التشكيك أدراج الرياح مع تشكل الهيئة العامة لمسيرة العودة الكبرى، ثم إطلاق طائرات وبالونات اللهب، ثم الاشتباك بالصواريخ والمدفعية بمواجهة صواريخ العدو، حدث تراجع مؤقت عن التشكيك من دون أن تطرف أعين المشككين، وهم يهللون لمسيرة العودة الكبرى.
ثم عاد البعض إلى التشكيك مع دعوة فصائل المقاومة، ومن ضمنها حماس إلى القاهرة، وما جرى من التفاوض تحت عنوان “اتفاق تهدئة”، الأمر الذي راح يضعف الموقف العام للفصائل كافة، في الوقت الذي لم يتم الاتفاق على شيء. بل كانت ثمة بوادر كثيرة تشير إلى أن موقف حماس والجهاد والشعبية والفصائل كلها؛ هو الأقوى. وإذا كان الاتفاق سيحدث، فلن يكون في مصلحة الكيان الصهيوني، ولا يكون التشكيك قد فعل غير إضعاف الموقف العام. ولكن هذا الإضعاف سيكون مؤقتاً ونسبياً؛ لأن ميزان القوى اليوم، هو أفضل من أية مرحلة سابقة، ومن ثم سيذهب التشكيك أدراج الرياح، ولكن من دون أن تطرف أعين المشككين، أو يتعلم البعض من دروس دُفِعَ ثمنها غالياً. والتشكيك اليوم قد يُضيّع فرصاً متاحة لتحقيق انتصارات إذا ما توحدت الصفوف جيداً، وفي المقدمة حماس والجهاد والشعبية، ويا حبذا فتح في الضفة والقدس، وبالطبع وحدة وطنية تجمع كل الفصائل، بل الشعب كله.