ذكرى الإمام الصدر وزعامة بري
غالب قنديل
في سياق المخاض الكبير الذي شهده لبنان والمنطقة العربية خلال عقد الستينيات من القرن الماضي كان صعود شخصية الإمام السيد موسى الصدر ودوره التنويري المناهض للنظام الطائفي والمقاوم للعدوان الصهيوني.
أطلق الإمام دعوة للعدالة الاجتماعية وللوحدة الوطنية وخاطب الفقراء والمحرومين في المجتمع اللبناني وقد استقطبت دعوته نخبا عابرة للطوائف والمذاهب بينما لاقى تبنيه لفكرة بناء مقاومة شعبية مسلحة في وجه العدوان الصهيوني صدى واسعا في ذلك الزمن وهو لم يقف عند حدود الدعوة السياسية بل أخذ المبادرة العملية وباشر بعملية تنظيم وتدريب لأفواج المقاومة اللبنانية مستعينا بكل من سورية والمقاومة الفلسطينية من اجل مباشرة القتال دفاعا عن القرى الحدودية في الجنوب اللبناني.
على هذا النحو كانت حركة السيد الصدر رافدا قويا في الحركة الشعبية العارمة التي واجهت فجور النظام اللبناني وتخاذله في وجه العدوان الصهيوني المستمر وكان الإمام أبرز دعاة احتضان قضية فلسطين والعمل الفدائي في تلك السنوات الصاخبة.
من اهم مزايا نهج الإمام الصدر التمسك الواضح بمبدأ عروبة لبنان ومن خلال العلاقة مع الشقيقة سورية وعندما اندلعت الحرب الأهلية كان لقاؤه الأصيل مع الراحلين الرئيسين سليمان فرنجية ورشيد كرامي مع القائد حافظ الأسد على مضمون المبادرة السورية لإنهاء الحرب الأهلية ولحماية وحدة لبنان وتبني المطالب الإصلاحية والشعبية من خلال الوثيقة الدستورية التي مثلت بعد ذلك لب وجوهر سائر مشاريع إنهاء الحرب والتقسيم وإعادة بناء الدولة التي دعمتها سورية لقطع الطريق على المشاريع الصهيونية وصولا إلى اتفاق الطائف.
كان صعود زعامة الرئيس نبيه بري ثمرة طبيعية لتجسيد تلك المنطلقات والمبادئ ولجذوره الشعبية والوطنية فهو كان القادم ضد التقليد السياسي من تراث الحركة الطلابية والنضال السياسي التقدمي ومن مبادرات سياسية كثيرة في العمل الوطني وكان اهم ما فيها هو التعبير عن نبض التغيير والوحدة الوطنية وعن النهج التحرري المعادي للصهيونية من موقع قومي عروبي وبالتالي عن فكرة المقاومة الشعبية والتحالف مع سورية وتبني فلسطين كما بلورها الإمام الصدر وطورها الرئيس بري في ظروف عاصفة حافلة بالتحديات منذ انتخابه لرئاسة الحركة بعد تغييب الإمام.
في إحياء ذكرى الإمام يجدد جمهور لبناني كبير التزامه بتلك المنطلقات والخلفيات التي نسجت تراثا سياسيا ونضاليا غنيا خلال العقود الماضية ومن خلال المعارك الكبرى التي خاضتها حركة امل وعبر مساهمتها الجزيلة في النضال الوطني فهي لعبت دورا حاسما في انطلاق المقاومة ضد العدوان الصهيوني وهي تصدرت الدفاع الشعبي عن الوطن في وجه الاجتياح الصهيوني عام 1982 حيث قاد الرئيس نبيه بري شخصيا عملية تعبئة شاملة لمقاتلي الحركة في اجواء تخاذل واستسلام وانهيار حكمت مواقف قيادية لبنانية وفلسطينية عديدة أمام حرب لم تكن مفاجئة ومن ثم كانت دعوة بري للمقاومة الشعبية ضد الاحتلال انطلاقا من مهرجان صور في خريف 1982 وحيث كان القائد الشهيد محمد سعد ينطلق بتوجيه ودعم رئيس الحركة لينظم عمليات عسكرية ريادية ضد الاحتلال في منطقة صور وكذلك فحركة امل بزعامة الرئيس بري جسدت فكر الإمام الصدر في رفض الهيمنة الصهيونية ومقاومة الاحتلال من خلال دورها الفاصل في بناء تحالف وطني واسع لإسقاط اتفاق السابع عشر من أيار قبل ان تكون للحركة بصمتها الحاسمة في دفن الاتفاق المشؤوم بفضل انتفاضة السادس من شباط 1984 التي قادها رئيس الحركة ورسم تفاصيلها مع شركاء الحلف الوطني المقاوم.
يحجب البعض في قراءتهم لتجربة حركة امل هذه الوجوه التاريخية المضيئة ويتجاهلون السر الحقيقي لزعامة الرئيس نبيه بري الذي هو في نظر الناس المعبر الرئيسي عن تلك القيم الوطنية الراسخة التي غرسها الإمام الصدر عدا عن كونه قد نجح في كسر بنى النظام الطائفي المتحجرة ومثل بقوة فكرة العدالة والتوازن التي نادى بها الإمام الصدر في وجه الهيمنة الطائفية لنظام 1943 التي كانت المصدر الرئيسي للفتن والخضات الطائفية فكل استئثار يتخذ طابعا وبعدا طائفيا يولد رفضا من طبيعته وعلى صورته وينبغي أن نشير إلى ان ما قصده الإمام الصدر بالحرمان كان جمعا بين ظاهرتي الحرمان الاجتماعي الذي تتعرض له الطبقات الشعبية والمناطق المهمشة المحرومة وبين الحرمان السياسي الذي تجسده ظاهرة تهميش الطائفة الشيعية في معادلات نظام 43 وبناه السياسية رغم حجمها الفاعل ودور جمهورها الحيوي في القضايا الوطنية وفي الحياة السياسية والاقتصادية لصالح قشرة التقليد المتعفنة التي كانت شريكة في النظام.
ما جرى من تقاسم بعد الطائف حول موقع الرئيس نبيه بري إلى قوة تمثيل سياسية لشرائح كبيرة وواسعة من طائفته وجهوره تراه اليوم المعبر الأمين عن مصالحها وتطلعاتها في النظام الطائفي اللبناني وما يميز الرئيس نبيه بري عن سائر شركائه في النظام الطائفي انه يتحدث صراحة عن علة التقاسم الطائفي وهو في قلبها ثم انه من جهة اخرى لم يكل عن التقدم بمشاريع وأفكار لتخطي التركيبة الطائفية من موقعه السياسي والدستوري وهو الوحيد من قادة تركيبة حكم الطائف الذي اصر على تنفيذ المادة 95 من الدستور وجوبه بالصد والرفض مرات عديدة وهو كان إلى جانب الرئيس ميشال عون والسيد حسن نصرالله خلف إقرار النسبية في قانون الانتخاب للمرة الأولى وناصر الصيغة الأكثر تقدما منه حنى استحقاق القبول بالتسوية الممكنة .
التحدي الوطني والقومي متواصل بينما خيار المقاومة يجدد جدواه كخيار للدفاع والحماية وأفكار الإمام المغيب ما تزال تؤكد أهميتها على محورية الخيار المقاوم والعروبة بينما تتقدم فكرة العدالة الاجتماعية والدولة العادلة الحديثة بوصفها شرط التجدد السياسي العابر للطوائف والمذاهب بعد استنفاذ الممكن من تجسيد الطموحات الفئوية في النظام اللبناني وقد اوشكت هذه الحلقة على استنفاذ مهماتها وجدواها وجاذبيتها وهنا يطرح نفسه التوجه التغييري المتعدي لحدود الطوائف والمذاهب الذي جسده الإمام الصدر واخلص له الرئيس نبيه بري في خطبه ومبادراته.