اتفاق الطائف على المحك: ناصر قنديل
– لا يبدو أن بين مستشاري الرئيس المكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري من يلفت انتباهه إلى أنه يمثل بتكليفه برئاسة الحكومة ترجمة لاتفاق الطائف، كما كان تكليف والده الرئيس الراحل رفيق الحريري الذي لم يكن توليه لرئاسة الحكومة نتاج امتلاكه أغلبية نيابية. وأن هذا النوع من التكليف لرئيس حكومة يقتضي منه ترجمة جوهر اتفاق الطائف وما تكرّس في مفهوم الحكومات التي ولدت في ظله، بكونها حكومات للوحدة الوطنية تضمّ المكونات التي تشكل الغطاء السياسي اللازم لممارسة السلطة بما لا يعرض السلم الأهلي للاهتزاز، من ضمن القوى التي ارتضت اللعبة السياسية التي رسمها الطائف محلياً وإقليمياً. وهي حكومات لم يكن غياب التيار الوطني الحر بداية والقوات اللبنانية لاحقاً عنها إلا تعبيراً عن وقوفهما خارج الأرضية السياسية الجامعة لتلك الحكومات، التي يصفها كل من التيار والقوات قبل انضمام تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي إليهما، بحكومات عهد الوصاية، رغم كون المستقبل والاشتراكي من أبرز مكوّنات تلك الحكومات وأصحاب النفوذ والمكاسب والمناصب في ظلالها .
– فكرة حكومة الوحدة الوطنية تقوم على تمثيل مكونات خسرت في الانتخابات النيابية، لتمثيلها للون سياسي أو حزبي أو طائفي، بالإضافة طبعاً لتمثيل المكونات التي حازت تمثيلاً نيابياً. وفكرة حكومة الوحدة الوطنية تقوم على حفظ التوازن بين مكوّناتها، بما يضمن عدم تعطيلها، ويضمن عدم هيمنة لون من ألوانها على قرارها، ويضمن توفيرها مظلة جامعة لممارسة السلطة وحماية قراراتها. وهي فكرة تعطّلت منذ انقسم اللبنانيون عام 2005 وصار تشكيل الحكومات يخضع لموازين القوى في مجلس النواب بعد كل انتخابات نيابية، وبقيت تسمية حكومة الوحدة الوطنية مبتورة بافتقادها الروح التي يفترض أن تحملها حكومة الوحدة الوطنية. وجاءت كل حكومات ما بعد 2005 تعبيراً حاداً عن موازين القوى رغم تسميتها حكومات وحدة وطنية، فكانت حكومات إدارة الحرب الباردة التي تدور بين اللبنانيين حول الخيارات الإقليمية المتصارعة في المنطقة، التي يتموضعون على ضفافها.
– للمرة الأولى منذ 2005 لا يحوز التيار الذي يمثله الرئيس سعد الحريري في تولي رئاسة الحكومة الأغلبية التي تسمح بتسميته دون شراكة من يفترض أنهم خصومه في السياسة، ومن يفترض أنه يمثلهم في حكوماته بحدود التفاوض على ميزان القوى. ومعلوم أن الرئيس الحريري لم يكن بحاجة لتفاوض يسبق تسميته ولا لتفاهمات سياسية أو حكومية تمهّد لهذه التسمية، فقد منح شيكاً على بياض من خصومه هؤلاء، يبادلهم الرد ّعليه اليوم بالاستقواء عليهم بتفويضه تشكيل الحكومة، ولو من منطق دستوري سليم، لكن بمعادلة سياسية غاشمة، أو غشيمة، بدلاً من أن يذهب بهذه التسمية لإعادة إنتاج مفهوم حكومة الوحدة الوطنية خارج ميزان القوى النيابي، بما يشعر جميع المكوّنات السياسية بأنها حاجة لتستقيم المعادلة السياسية والحكومية بمعزل عن أحجامها التمثيلية في المجلس النيابي، ولكن بما يحفظ التوازنات الطائفية والمناطقية والحزبية للقوى الكبرى.
– عندما يختار الرئيس الحريري معادلة ميزان القوى النيابي، ويحاول الالتفاف على جوهرها لتعطيل نتائجها التي لم تكن لصالح فريقه، يقع في الخطأ القاتل. فهو بعدما أسقط القاعدة الأولى يُسقط القاعدة الثانية، وليس في الطائف فرصة لقاعدة ثالثة. ولذلك فهو يفتح الباب لحكومة الأغلبية النيابية، رغم عدم واقعيتها، لكنه يؤسس لها في السياسة، إن لم يكن في هذه الحكومة ففي التي تليها، بعدما فرض أن يكون عمر حكومته المقبلة قصيراً بسبب إخلالها بقواعد تضمن لها الحياة وتجعلها عرضة للسقوط عند أول مفترق إقليمي أو داخلي، ويضيّع معها فرصة إعادة تسميته رئيساً لحكومة مقبلة، من دون تفاهمات مسبقة وتفصيلية، تطال التشكيلة الحكومية والبيان الوزاري، وتخرج عن مفهوم حكومات الوحدة الوطنية إلى حكومات الأغلبية، بما يجعل حلفاءه الذين يقاتل للفوز لهم بحصص وازنة عرضة للاستبعاد في حكومة مقبلة إذا أراد إعادة تسميته رئيساً للحكومة ولم يختر البقاء مع حلفائه خارج الحكومة.
– لا يزال بيد الرئيس الحريري أن يستثمر الفرصة المتاحة، بتظهير حكومة وحدة وطنية قبل مواعيد المحكمة الدولية التي يبشر بها حلفاؤه وبعض نوابه، تحت شعار الفرصة لعزل حزب الله أو إضعافه، أو ابتزازه بالتهديد في أحسن الأحوال، وبيد الرئيس الحريري أن يضع معياراً واحداً بالتشاور مع حلفائه مجتمعين، فيعتمد تمثيل الكتلة الأولى نيابياً في طائفتها إرضاءً لتياره وللحزب التقدمي الاشتراكي، فيحصر بهما تمثيل السنة والدروز، ويرتضي بالمقابل حصر التمثيل المسيحي بالتيار الوطني الحر والتمثيل الشيعي بثنائي حركة أمل وحزب الله المتضامنين ككتلة واحدة، أو أن يعتمد تمثيل التعدّد السياسي في كل طائفة. فيضمن تمثيل القوات بحجم ما نالت نيابياً، ويرتضي بالمقابل تمثيل اللون الآخر غير القوات مسيحياً من مردة وقوميين ومستقلين، ويرتضي تمثيل النواب السنة من خارج تيار المستقبل واللون الدرزي الآخر غير الاشتراكي، الذي نال تمثيلاً نيابياً، وبإمكانه أن يعتمد تمثيل الخمسة نواب بوزير والأربعة بوزير، شرط أن يثبت على المعيار ويطبّقه على الجميع.
– قد ينجح الرئيس الحريري في ظل الحاجة لحكومة، وفي ظل الارتباك الذي فرضته طريقته في إدارة الملف الحكومي بروح فئوية لصالح تمثيل غير منصف، وابتعاد عن روح الطائف وجوهر حكومة الوحدة الوطنية، أن يفوز بحكومة مجافية للمنطق وللمعادلات الطبيعية التي تفرضها السياسة، لكنه بذلك يحكم على الطائف ويحكم على حكومته بعمر قصير، وعلى إضعاف فرصه المقبلة برئاسة الحكومة.