ترامب وضياع “طاسة” الحبر
عندما تشوّشت الحدود بين الحريّات والمسؤوليات، أدخلت أميركا البشرية في مخاطر المشاعية أوأعادتها إليها صاغرةً لتستأنس بحريّة تشابه المجتمعات البدائية وتطلق الغرائزية المطلقة إلى اقصاها.
قد لا نغالي إن صرخنا تائهين من عالمٍ صار بلا ضوابط أو جذور أو حدود.
يصحّ القول أنّنا بلغنا دنيا “فلت الملق” فيها أو”ضاعت طاستها” ولو عثرنا عليها لخرجنا ربّما من أنفاق الفوضى التي لا ندرك فيها حقيقتي الحرية والمسؤولية بالمعاني والمستويات الحضارية.
لنفسّر قبل كلّ شيء ما هو في صلب تراثنا :
“فلت الملق” (بتسكين الميم والقاف وفتح اللام) أي سقط ومثله “ضاعت الطاسة”. مثلان شعبيان يختصران مآزق الفوضى العارمة ومشاهدها وهما يضيئان على ما نحن فيه من الحريّات السائبة في التعبير والكتابة في العالم الحر الفالت :
1- فلت الملق: كان المكاريون ينقلون المياه والزيوت على ظهور الحمير في مظاريف يخيطونها من جلود المواشي. يحتفظون ب”الملق” وهو كناية عن خابور أو سكر خشبي مربوطاً برقبة المظروف بسبب الخوف الدائم من أن تبتلّ قطعة الخشب بالسائل فترتخي ويفلت ما في المظروف كفتاً على الأرض. حينها تدبّ الفوضى ويعمّ الصراخ وتظهر الخسائر.
ينسحب هذا المثل أيضاً على الفلاحين في بيوتهم الطينية عندما تفلت سدّة الأكوارة (الثقب) من بين أصابعهم في أسفل خزائن الطين حيث يحفظون غلالهم لكنها تهرّ على الأرض ويعلو الصراخ وتعمّ الخسائروالفوضى لصعوبة تعبئتها ووضعها مجدداً في الأكاور.
2- ضاعت الطاسة:عندما ضعفت الرؤية في الحمام التركي بسبب البخار الكثيف وتوقّف سكب الماء، ساد الصراخ والهرج والمرج بين المدلّكين والمستحمّين وعمّت الفوضى.
صرخ أحدهم بصوتٍ جهوري سائلاً عن سبب هذه الفوضى وجاءه الجواب خفيفاً من زاوية معتمة:
ضاعت طاسة الحمّام.
لماذا هاتين العبرتين الشعبيتين؟
لأنّ دونالد ترامب مذ أعلن ترشّحه لرئاسة أميركا ودخوله البيت الأبيض، يتقاتل مع الصحافة في العالم، وخصوصاً الأميركية منها. هي لم تجعله يخلد إلى النوم، واعتبرها “عدوّ الشعب” ولا ما يربطها بالمناخ الديمقراطي إن لم تساير وتنصاع لسياسته ومزاجه في قيادة دولته وخدمته.
كانت النتيجة أن شنّت عليه أخيراً أكثر من 350 صحيفة في أميركا وبالتزامن حملة هائلة جعلته نتفاً وهي تعتبر ظاهرة فريدة في تاريخ البيت الأبيض قوامها افتتاحيات ومقابلات ونصوص تشدد على حريّة الصحافة في المجتمع الأميركي. ستلاقيها عمّا قريب الرابطة الإخبارية الرقمية للتلفزيون والإذاعة التي تضمّ أكثر من 1200 محطة تلفزيونية وإذاعية تتجهّز للإنقضاض عليه. قد تزيحه الصخ\حافة من البيت الأبيض إلى سطرين في الموسوعات. تستند تلك الغارات الصحفية إلى المادة الأولى من الدستور الأميركي (إنتبه إلى رقم المادة) التي تنص على حرية الصحافة والإعلام والشعار المرفوع بأنّ الحبر ما كانت ولن يكون عدوّاً لأحد. لا يمكن تصوّر إنشغال وسائل التواصل الإجتماعي في أميركا والعالم بالموضوع والمطالبة العارمة بحريّة الرأي.
إنقسمت الصحافة في العالم والإعلاميون والرأي العام الذي يشغل وسائل التواصل الإجتماعي إلى توجّهين يتنافران ويتلاقيان:
1- واحد يحترم كلّ ما يقوله أو يغرّد به الرئيس الأميركي لأنّه واقع ضمن إحترام حريّة الرأي وحق التعبير حتّى في تناوله للصحافة بالرغم من أنّ هذا الأسلوب الفوقي والحاد من سيّد البيت الأبيض زعزع صورة أميركا في الداخل والخارج وهذا حق من حقوقه الطبيعية التي تقوم عليها أميركا، وتحاول نشرها في العالم.
ما ينطبق على الرئيس ينطبق على أي مواطن سواء أكان صحافياً بارزاً أو مواطناً أميركياً عادياً. وأيّ موقف عدائي حتّى ولو كان من الرئيس فهو مرفوض ومدان حيث لم يعد هناك من مكان لوسائل الإعلام التي تديرها الدولة لأنّ هذا نموذج تراجعي خطير يهدّد الدولة بعظمتها بما لا يجعلها تفترق عن أي نظامٍ فاسد تحاربه أميركا في العالم.
2- هناك رأي آخر يتنامى ويقوى إلى جانب الرئيس ترامب حريص على حريّة الصحافة وحمايتها من الضغوط والإغراءات الخارجية والداخلية لكنه يراها تتدهور وتتاجر وتفاجر وتتراجع الثقة بها وهو مع أن يكون لدى الرئيس الأميركي السلطة الكاملة بمقاضاة الصحافيين وحتى إقفال الصحف والشاشات ذات السلوك الملتبس لأنّه ضنين بسمعتها وتدهورها التي تضرّ بسمعة أميركا.
يستدرج هذا الوضع في أقوى دولة في العالم للتفكير وتذكّر أمثلة قديمة وحديثة مشابهة في العالم لا تحصى أقربها ألينا رجب الطيب أردوغان “السلطان التركي الأعظم الجديد” (بين قوسين بالطبع ) الذي أحكم حبل الخناق على الصحافة والصحافيين وحريّة التعبير في تركيا.
يمكننا التفكير بقانون الجرائم المعلوماتية في مصر اليوم الذي يشغل المصريين ويستحوذ على آرائهم ومواقفهم ويدفعهم نحو التقاتل والإنقسام وكمّ الأفواه.
يمكننا بسهولة الإنتقال إلى لبنان الذي لا يتباهى بديمقراطيته المستوردة وحسب بل يتشاوف بها تاريخياً على العرب كلّهم من حوله، ويبدو أنّ السياسيين يشغلون بعض رجال القضاء ومحاكم الجنايات والجرائم بسبب تغريدة لمواطنٍ نشفت عروقه من الجوع والعطش والظلمة والفساد والسرقات فشاء أن يصرّح أو يفشّ خلقه والتعبير عن أزماته على صفحة الفايسبوك أو التويتر بلد تتراكم فيه جرائم الفساد الكبير كما تتراكم النفايات والإستهتار الرسمي من كلّ حدب وصوب وعلى أعلى المستويات من دون أي خجلٍ أو تواضع في ترتيب الأولويات إنصرافاً الى معالجة الفضائح بدلاً من إضاعة الوقت في كمّ الأفواه وطمس عيون الناس عن جرائمهم للتلهّي ب”جرائم” التعبير والكتابة والحرية التي يبدو لبنان من دونها وطناً مقشّراً.
الى أين من هنا بعدما فلت الملق ؟
إلى التفكير الجدّي بطاسة العولمة وملقّها بعد الضياع والفلتان لأنّ طابخ تكنولوجياتها يتذوّق مراراتها بعدما قفزت الصحافة من السلطة الرابعة ألى سلطة السلطات .
وللبحث صلة.
.