التفوق بالزمن الاستراتيجي وتوهُّج الروح: ناصر قنديل
– في يوم النصر الذي انتهت معه جولة من جولات المواجهة التاريخية المفتوحة بين المقاومة وكيان الاحتلال فرصة للقراءة والتقييم وتسجيل العبر، خصوصاً مع النتائج التي تبدو محسومة لحاصل أضخم حروب القرن التي دارت في سورية وعليها وحولها، وكانت المقاومة في قلبها، كهدف ودور ومصير، ولا بدّ أن تُعتبر واحدة من جولات هذه المواجهة التي لم تنته في 14 آب 2006. ويصحّ معها القول إن حرب سورية كانت جولتها اللاحقة الأشد ضراوة، والتي حاولت استيعاب دروس حرب تموز بعد خمس سنوات من توقفها بهزيمة تاريخية لكيان الاحتلال، وكان أول الاستيعاب هو الاستعداد لحرب تدوم لسنوات دون أن يكون كيان الاحتلال في قلب الاستنزاف. وثاني الاستيعاب هو أن يتقابل مع المقاومة في الميدان جيش رديف لجيش الاحتلال يضاهي المقاومة في القدرة على تحمّل بذل الدماء هو تنظيم القاعدة بكل متفرّعاته. وثالث الاستيعاب هو حشد دول الغرب كله في هذه الحرب وربطها بتكريس معادلات دولية استراتيجية لحساب مشروع الهيمنة الغربية وترميمه بعد حروبه الفاشلة التي سبقت، وجعل الهدف سورية أي القلعة التي تستند إليها المقاومة والظهر الذي يسندها، ورابع الاستيعاب هو توزيع حصص الكعكة السورية على المشاركين الإقليميين من السعودية إلى تركيا وقطر وكيان الاحتلال الرابح الأول سواء سارت الحرب نحو بناء حكم تابع للغرب وجماعاته في سورية أو نحو التقسيم وولادة مجموعة كيانات تابعة أو على الأقل متناحرة .
– الحصيلة التي تنتهي إليها الحرب على سورية تقول بلسان كيان الاحتلال وقادته ومفكرية شيئاً يشبه ما قالوه بعد حرب تموز، وعنوانه الإخفاق والفشل. رغم كل محاولات احتواء هذا الإخفاق وتجميل ذاك الفشل، بالتأقلم مع جوانب من نصر سورية ومحاولة تعديل جوانب أخرى فيها، ويبدو ذلك كله عبثاً من نوع الرهانات التي رافقت نهاية حرب تموز 2006 حول الجيش اللبناني والقرار 1701، وأوهام نشر المراقبين الأمميين على الحدود اللبنانية السورية، ولن يكون بيد كيان الاحتلال تفادي حقيقة أنه تلقى في سورية هزيمته الاستراتيجية التي حاول إنكار وقوعها في حرب تموز 2006، ولذلك يتفادى تشكيل لجنة تحقيق من نوع لجنة فينوغراد، لأن النتيجة ستكون كارثية إذا اعترف بأن الحرب حربه وأنه خسرها بصورة مدوية.
– في الحصيلة خابت رهانات كيان الاحتلال على ضعضعة صفوف المقاومة في جبهتها الرئيسية عبر جنوب لبنان، وخاب رهان استنزاف المقاومة في سورية، كما خاب رهان بناء حزام أمني على حدود الجولان، ورهان إسقاط سورية كقلعة للمقاومة أو تقسيمها وتقاسمها، أو تحويلها مستنقعاً للفتنة المذهبية التي حلمت بها «إسرائيل» ذات يوم، وها هي المقاومة المنتصرة مع سورية وفيها، تقطف ثمار التحولات الكبرى التي رافقت تبلور ملامح النصر، بحلف مع روسيا لم يكن موجوداً قبل الحرب السورية، وتوازنات إقليمية ودولية تتبلور تداعياتها بصورة تدريجية، ومعها معادلات لبنانية جديدة لن تسقطها مناورات تشكيل الحكومة الجديدة، بعدما حسمتها انتخابات رئيس الجمهورية والانتخابات النيابية.
– الحقيقتان اللتان تقولهما تجربة كيان الاحتلال مع المقاومة، لجهة مفهوم الاستعداد للحرب المقبلة، هما أن الفارق الجوهري بين المقاومة والكيان يقوم أولاً بكون الكيان المحتل يستعدّ للحرب المقبلة من وحي ما كانت عليه الحرب التي انقضت، وإذ به يفاجئ بأن المقاومة التي يواجهها ليست هي تلك التي كانت في تلك الحرب التي اتخذها مدرسة للاستعداد، بينما المقاومة تتسعد للحرب المقبلة بمقياس ما سيكون عليه الاحتلال بأفضل الفرضيات لصالحه لو أتم الاستعداد فتكتشف أنه دون مستوى ما أعدّت للحرب. وهذا هو مفهوم التفوق بالزمن الاستراتيجي، وثانياً بكون كيان الاحتلال في كل هزيمة يفقد بعضاً من روحه، بينما تكتسب المقاومة المزيد من الثقة والقوة لروحها، وتأتي الجولة اللاحقة بروحين متفاوتتين وتزدادان تفاوتاً في قلب المواجهة وبعدها، ويثبت أن ما تفقده الروح لا يستردّ وأن ما تكتسبه الروح المقابلة يتصاعد قيمة وتوهجاً في الحرب التي تلي، وهذا هو مفهوم التفوق بتوهّج الروح.
– إن أي عقل استراتيجي يريد تسجيل العبر ورسم الخط البياني لمحطات المواجهة الممتدة خلال أكثر من ثلاثة عقود بين المقاومة وكيان الاحتلال، تغيّر فيها كل شيء من الموارد والظروف وساحات المواجهة وأدوات الحرب والمناخات الدولية والإقليمية والمحلية، وبقي فيها ثابت وحيد، هو قدرة هذه المقاومة على الخروج من نصر إلى آخر، سيقول لقادة الاحتلال عبثاً تحاولون فأنتم تواجهون قوماً يستعدون لحرب قرن مقبل بعقل القرن المقبل وأدوات القرن المقبل، بينما أنتم تفكرون وتعدّون وتستعدون لحرب القرن الذي مضى، وأنتم تملكون روحاً تتلاشى من جولة إلى جولة ومن تقابلونهم يملكون روحاً تزداد توهجاً من جولة إلى أخرى، فتدبّروا لأنفسكم مخارج أمان غير الحرب مهما بدت مؤلمة ومكلفة فهي أقل إيلاماً وكلفة مما ستجلبه الحرب المقبلة.