بقلم ناصر قنديل

بين فؤاد شهاب وميشال عون: من بعثة إيرفد إلى ماكنزي: ناصر قنديل

قد يكون من الإنصاف القول إن الأقرب مثالاً للرئيس فؤاد شهاب، الذي يعتبر باني النسخة الحديثة للدولة اللبنانية والتي أصابتها الشيخوخة، هو الرئيس ميشال عون، الذي يتطلع إليه اللبنانيون ليكون النسخة المحدّثة لفؤاد شهاب والتي تستعيد للدولة شبابها وتضخّ في شرايينها دماء الحيوية والحياة، والتشابه نابع مما هو أبعد من كون الرجلين يأتيان من خلفية عسكرية قيادية، يشاركهما فيها كثيرون تولوا الرئاسة بينهما، بل من الرؤى الإصلاحية العميقة لكل منهما من جهة، ومن الظرف الإقليمي النوعي المحيط بلبنان وكيفية تعاملهما المتشابهة معه من جهة مقابلة، وحيث يتوقف نجاح التجربة العونية على قدرة محاكاة هذه المتغيرات اقتصادياً، بالطريقة التي فعلتها الشهابية، بتحديد ميزات لبنان التفاضلية مقابل حاجات الإقليم من جهة، وحاجات لبنان لمؤسسات دولة تخرج به من عقلية المزرعة .

يستمرّ التشابه في النقلة التي أحدثها عهد كل من فؤاد شهاب وميشال عون في قوانين الانتخاب بطريقة تأخذ بلبنان نحو خطوة إلى الأمام، فالإصلاح السياسي يبدأ بالإصلاح الانتخابي، ويشكل ضرورة أي إصلاح آخر، وبمثل ما كان قانون العام 60 إنجازاً في حينه باعتماد وحدة إدارية مرجعية هي القضاء أساساً للدائرة الانتخابية في ظل النظام الأكثري المجمع عليه والمشكو من العبث المستمر بحجم الدوائر المعتمدة فيه، جاء الذهاب لنظام التمثيل النسبي خطوة مشابهة في الأهمية والحاجة، وهو لا يزال يحتاج لعمليات تنقية من شوائب لحقت به في حمى السرعة والتسرّع والحسابات الضيقة والتوازنات الهشة، التي حكمت جميعها شروط ولادته.

الوجه الثاني للتشابه يأتي مع لجوء الرئيس فؤاد شهاب لمؤسسة ايرفد لوضع مخطط توجيهي عام للاقتصاد اللبناني وفقاً لعقد أبرمه وزير التخطيط في حكومة شهاب عام 1959 مع المؤسسة التي يرأسها الأب لويس جوزف لوبريه، وتعاقد وزير الاقتصاد في حكومة عهد الرئيس ميشال عون الأولى رائد خوري مع مؤسسة ماكنزي لغرض مشابه. ومعلوم أن عهد الرئيس شهاب شهد ولادة مؤسسات إدارية بقيت بوليصة التأمين في الدولة اللبنانية كالتفتيش المركزي ومجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة، ومؤسسات مصرفية وإنتاجية وإنمائية، كبنك إنترا وطيران الشرق الأوسط ومكتب الحبوب والشمندر السكري، ومؤسسات نهضوية كالجامعة اللبنانية التي كانت مجرد دار للمعلمين العالية، ومشروع الليطاني، ومشاريع خدمية كبرى كشق الطرق وتأمين المياه والكهرباء والهاتف للأرياف ونشر شبكة المدارس الرسمية عبر الجغرافيا اللبنانية. هذا بالإضافة للمؤسسة المحورية في البناء الاقتصادي الاجتماعي ومفهوم دولة الرعاية، التي مثلها الضمان الاجتماعي.

الثورة التي مثلتها خطط فؤاد شهاب التي ترسملت بدراسات بعثة إيرفد، تأسست على قراءة وظيفة اقتصادية إقليمية للبنان متصالحة مع زمن النهوض التحريري الذي شكّل جمال عبد الناصر عنوانه، وما رافقه من عمليات تأميم وابتعاد الرساميل العربية والغربية عن معظم البلاد العربية، وسعي لبناني مدروس لاستقطابها، وتزامنها مع حاجات سلعية وخدمية يتقن لبنان توفيرها. وهي بالطبع كلها شروط تغيّرت، في زمن التخمة المصرفية والخدمية في بلدان الخليج حيث الثروة، التي كانت أو تكاد تكون صارت بلغة الماضي مع الإنفاق المتهوّر على الحروب والسياسة وتسديد الفواتير الأميركية الثقيلة الوزن، فكيف تنطلق خطة ماكنزي من محاكاة الظرف المتغير؟

سبق تقارير ماكنزي تقرير لشركة بوز اند كومباني، وسبقتهما معاً محاولة استشرافية لم يكتب لها النجاح في عهد الثنائي، الرئيس الشهابي الياس سركيس والاقتصادي المخضرم رئيس الحكومة سليم الحص عام 1976 ومعهما خبير محترف هو الدكتور محمد عطالله وتجربة مجلس الإنماء والإعمار، وجاءت بعد ذلك تجربة الرئيس رفيق الحريري التي انطلقت من فرضية تقدّم عملية مدريد للسلام في المنطقة، وبناء دور خدمي لبناني مرتبط بها، وسيكتشف مَن يطلع على ما نشر من فقرات وأفكار من تقرير ماكنزي وما فيها مما قبله، أنها على أهميتها متفرقة، بما فيها تشريع زراعة الحشيشة وهي واحدة من الأفكار المتداولة قبل التقرير، وكذلك الزراعات النوعية التي تضمّنتها خطة محمد عطالله للنهوض الاقتصادي، وصناعة العطور والأزياء والإنتاج الفني وسواها من أفكار هامة ونوعية، ومضافاً إليها الإنتاج المعرفي بمفهومه الحديث المطروح في كل الخطط، ليس بينها الرابط المحوري، وهو الجواب على سؤال الوظيفة الإقليمية الاقتصادية التي سيقوم عليها لبنان.

يعيش لبنان في ظرف إقليمي فقد فيه وظيفة الشرفة الخدمية والتجارية والمصرفية والفيتيرين الاستهلاكية لدول الخليج الغنية، التي فقدت هي أيضاً غناها، وبدون رسم معالم وظيفة إقليمية اقتصادية تنطلق من حاجات ملحّة في الإقليم يملك لبنان فيها قيمة تفاضلية، يبقى التجميع للأفكار عشوائياً وانتقائياً وتجريبياً، ولا يصير خطة كما صار في عهد فؤاد شهاب، ولا يتاح توفير الفائض اللازم لبناء هياكل دولة قادرة على حماية الدور والقيام بأعبائه وتوزيع عائداته على فئات الشعب المختلفة مناطقياً وطبقياً. والحقيقة التي يجب أن ينطلق منها البحث أن لبنان الذاهب ليصير دولة نفط وغاز يرتكب الخطأ القاتل إذا فعل ما فعله أقرانه العرب الذين بنوا دولهم واقتصاداتهم على قدم واحدة، هي إنفاق عائدات النفط والغاز لسداد عجز الخزينة وترميم الفوارق الاجتماعية لضمان الاستقرار السياسي فكانت أنظمة الحكم المتخلّفة نتاج هذا السلوك، والدولة المشوّهة المولود الطبيعي.

التطلّع نحو الجغرافيا المحيطة سيفيد فوراً بأن عمق لبنان الاستراتيجي اقتصادياً هو سورية والعراق وإيران، الدول التي تتكامل مع لبنان بالحاجات والميزات التفاضلية، عدد سكان وفير، يقارب المئة وخمسين مليون نسمة، وتطوّر استثماري محدود، وخبرات خدمية متواضعة ومؤسسات مصرفية ضعيفة، وثروات عالية القيمة تعاني البحث عن شرفتها على المتوسط وفيترينتها الاستهلاكية، وهو الدور الذي قامت به دبي في مرحلة غياب لبنان بالنسبة للعراق وإيران طوال عقدين، وبُنيت عليه نهضة دبي. وأول شروط لعب هذا الدور سياسي بامتياز وما يستدعيه من وضع الحسابات الضيقة جانباً، والانطلاق من مصلحة لبنانية صرفة. وثاني هذه الشروط هو التشبيك بسكة حديد عصرية حديثة عملاقة تنقل الأفراد والبضائع على مدار الساعة بين طهران وبغداد ودمشق وبيروت، يوازيها خطّ أنابيب نفط وغاز يجعل لبنان روتردام المتوسط والشرق وسوقهما الحرة لبيع النفط والغاز وليس حيفا، وبالتوازي شبكة نقل كهربائي تعتمد على مفاعلات نووية روسية في المنطقة الحرة المقامة بين روسيا وإيران لبيع الطاقة والسعي لتلبية حاجات لبنان وسورية والعراق منها كخير مشترك لكل أطراف المعادلة الاقتصادية فيها، في زمن يضحك على نفسه مَن يتحدّث عن إنتاج الطاقة محلياً ويتذرّع بأنها أمر سيادي يجب تأمينه بإنتاج الكهرباء من معامل مقامة على أرضه وهو يشتري الوقود لتشغيل المعامل، والفارق معلوم في التكلفة، بين المفاعلات النووية والمعامل العاملة على النفط والغاز، بوفر نصف الكلفة على الأقل، وتبقى المعامل الموجودة احتياطاً لتغطية مراحل الأعطال الطارئة التي لا تستمر لساعات، هي الوقت اللازم لنقل التغذية من مفاعل إلى آخر.

إن حل مشكلة عجز الخزينة عبر حل عصري وإقليمي لمشكلة تأمين الكهرباء، وتأمين أسواق سورية والعراق وإيران للبضائع اللبنانية، وتدفق عشرات آلاف رجال الأعمال الايرانيين والعراقيين والسوريين يومياً الى بيروت لإدارة أعمالهم، وتيسيير معاملاتهم، برحلة تستغرق بضع ساعات عبر شبكة عصرية لسكك الحديد المنتظمة، وما يرافقه من دور إنشاء المنطقة الحرة الخاصة بإعادة الإعمار في سورية والعراق، يشكل عنوان نهضة الاقتصاد اللبناني، ويجب أن يرافقه فهم حديث للكيفية المنهجية لاستعادة التوازن بين المدينة والريف ومعه التوازن البيئي والسكاني وفي لبنان الضيق المساحة، تشكل شبكة سكك حديد ببضعة آلاف الكيلومترات فرصة لانتقال سكان العاصمة إلى المحافظات ومدنها بيسر وسهولة وكلفة بسيطة وشروط مريحة، ويصعب حصر الفوائد المتعددة والكثيرة لما سيحدث حينها اقتصادياً وبيئياً واجتماعياً، وربط حلّ مشكلة النفايات والكسارات باعتماد حصري لسلسلة الجبال الشرقية كمطمر مركزي للنفايات ومصدر حصري لمنتوج الكسارات، يشكل فرصة بيئية واقتصادية موازية ترتبط أصلاً بشبكة سكك الحديد التي تكرس لربط ناقلاتها المخصّصة لنقل النفايات ليلاً للذهاب بها إلى تلك الجبال والعودة بمنتوج الكسارات، وهنا فقط يمكن القول إن إضافة بعض الأفكار من دراسة ماكنزي وسائر الدراسات التي سبقتها يغني خطة النهوض التي تلبي حاجة وظيفية في الإقليم، وتستثمر على ميزات تفاضلية للبنان.

– هكذا يكون عهد الرئيس ميشال عون تطويراً وتحديثاً لما ورثه من عهد الرئيس فؤاد شهاب ويكون الرئيس عون باني الجمهورية العصرية الثانية، بعدما نجح الرئيس شهاب بأن يكون باني الجمهورية الحديثة الأولى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى