الباحثون، الباحثون د.بثينة شعبان
حين سأل الرئيس أوباما رئيس وكالة الاستخبارات الأميركية الــ CIA في أول جلسة لمجلس الأمن القومي عام 2009، كم راكمت إيران من المواد الانشطارية في موقع ناتانز. أجاب رئيس الاستخبارات هيدن: “السيد الرئيس، أنا أعرف الجواب لهذا السؤال وسوف أعطيك الجواب بعد دقيقة، ولكن هل يمكن أن أشير إلى طريقة أخرى للنظر إلى الموضوع. ليس مهماً. ليس هناك إليكترون أو نيترون في موقع ناتانز سوف يظهر في سلاح نووي. الذي يبنوه في ناتانز (موقع إيراني) هو المعرفة، والذي يبنوه في ناتانز هو الثقة ومن ثمّ سوف يأخذون تلك المعرفة وتلك الثقة، وسوف يذهبون إلى مكان آخر ويخصبّون اليورانيوم. تلك المعرفة سيدي الرئيس موجودة في عقول العلماء”. ومن هنا فإن عقول العلماء كانت هي المستهدفة من قبل القوى التي لا تريد لبعض البلدان أي تقدّم، أو ارتقاء في حقول العلم والمعرفة، ومن هنا أيضاً فقد خصص الكيان الصهيوني الدراسات الاستراتيجية، والموارد الغزيرة لاستهداف العقول في البلدان العربية وإيران. لقد استهدف الكيان الصهيوني عقولاً عربية أبدعت في مجالات مختلفة من الأدب إلى الطب إلى الفيزياء إلى الفنون، والفلسفة، والفكر، وكلّ مرة بذرائع مختلفة، وبحجج حماية هذا الكيان، ولكنّ الحقيقة الأكيدة وراء كلّ هذه الإغتيالات هي إدراك هذا الكيان أن النخب المجتمعة في الاختصاصات هي التي تحرّك عجلة المجتمع، وهي التي تلعب دوراً أساسياً، وفاعلاً في تقدّمه وازدهاره. ومن هنا فإن هذا الكيان يدعي اغتيال علماء الفيزياء، والذرة السوريين، والعراقيين، والفلسطينيين، والإيرانيين بذريعة الخوف من تطوير السلاح النووي، ولكنّ غسان كنفاني لم يكن عالم فيزياء، ولم يكن عيسى عبود، وسمير رقية، ونجيب زغيب علماء نوويين، كما لم يكن ناجي العلي مهندساً نووياً ولكنهم كانوا من العقول الفذّة في مجال اختصاصهم. لقد وضعت الصهيوينة، وخاصة على يدي نتنياهو وليبرمان، أهمّ الخطط لاغتيال العلماء النوويين في العراق، وإيران. وأصبح تعبير “القتل المستهدف” تعبيراً مستخدماً في النقاشات الدائرة بين حكومة الكيان الصهيوني، وحكومات الولايات المتحدة، بل وأصبحت التقييمات والدراسات تظهر لتقديم المؤشرات حول فعالية هذا الأسلوب في إبطاء البرنامج النووي الإيراني أو حتى في تشجيع ما أسموه “التسرّب الأبيض” وهو أن يتسرّب العلماء من مكان عملهم، وأبحاثهم الأساسية إلى أماكن أقلّ أهمية ولا تسبب تهديداً لحياتهم. وكانوا يقيسون، ويناقشون كم تسبب اغتيال عالم أو عالمين أو ثلاثة في إبطاء الأبحاث وبناء البرنامج النووي، وإبطاء المعرفة في الأماكن والاتجاهات التي يرصدونها. ومع أن الولايات المتحدة مارست الأسلوب ذاته، واغتالت علماء هنود كي لا تسمح للهند أن تصبح قدرة نووية إلا أنها تدعي أنها لم توافق مع حكومة الكيان على اغتيال علماء عرب رغم اعترافها أن هذا الأسلوب قد آتى أكله وأن اغتيال العلماء العرب، والإيرانيين قد حققّ النتائج المرجوة، وهو إبطال المشاريع التي ينوون تحقيقها أو إبطاء شديد في المجالات العلمية التي كانوا ينوون الإسراع فيها واستثمارها في المجالات المختلفة. لقد سارعت حتى النيويورك تايمز لتشير إلى أن اغتيال العالم السوري عزيز إسبر منذ أسبوع يحمل بصمات الموساد، وفي الوقت الذي عبرت فيه إسرائيل عن رضاها لاغتياله أنكرت مسؤوليتها عن هذا الفعل المشين، وتحت عنوان تاريخ طويل من اغتيال علماء شرق أوسطيين نكتشف أن هؤلاء العلماء هم عرب، وإيرانيون حصراً. فقد تمّ اغتيال عدد من العلماء المصريين في سبعينيات، وثمانينات القرن الماضي حين فكرت مصر بتطوير طاقاتها النووية إلى أن تمّ وضع حدّ لهذه المحاولة بشكل نهائي كما تمّ اغتيال علماء من سورية، وفلسطين، ولبنان، وتونس، والعراق خلال عقود ولا شك أن اغتيال العلماء العراقيين كان هو الأبرز لأنه تمّ اغتيال العشرات منهم بعد أن توصلوا إلى مرحلة متقدمة من المعرفة، وكذلك اليوم نشهد أنّ إحدى أساليب الحرب ضد سورية هي اغتيال العلماء، والعقول الاستثنائية في محاولة لمنع إحراز تقدّم في العلم والمعرفة. كما أن اغتيال العلماء الإيرانيين خلال العقود الماضية كان أحد أهم أساليب الحرب ضد إيران، والتقدم الذي أحرزته في مختلف أنواع العلوم. وبعد أن أصبحت هذه الحقيقة ثابتة، وموثقة في مواقع مختلفة وبعد أن اعترف الأعداء في نقاشات، وحوارات، وخلافات أنهم يتبنون هذه الطريقة لحرمان الشعوب من التقدّم المعرفي السريع، ماذا فعلت البلدان المستهدفة في هذا المجال وما هي الخطوات التي تمّ اتخاذها أولاً لتغيير طبيعة عيش، وتحرّك هؤلاء العلماء، ومن ثمّ لمضاعفة الاستفادة من العقول النيّرة في كافة المجالات، وتسهيل أسلوب، وطرائق عملها واستثمار نتائج هذه الأعمال بأنجع الطرق. إن أهمّ شيء يجب التركيز عليه هو ما قاله هيدن للرئيس أوباما أن الأهم هو أن المعرفة في عقول العلماء، وأن هذه المعرفة وهذه الثقة هي التي تتحول إلى منتج يخشاه الأعداء ويفرح به الأصدقاء. أي أن موهبة الباحث وعمله هما القيمتان اللتان يجب الحفاظ عليهما بكافة السبل، ويجب حماية وقت وسلامة الباحث ليس فقط من فعل اغتيال، ولكن أيضاً من اغتيال وقته، وجهده، وعطائه حتى وهو على قيد الحياة، ويبدو وكأنه يمارس حياته بشكل طبيعي ومثمر. إنّ إحدى نقاط الضعف في وطننا العربي، وعلى مدى العقود الماضية، تكمن في عدم تخصيص الموارد الكافية للباحثيين، والعلماء، وعدم إيلائهم الأهمية التي تتناسب ودورهم في دفع عجلة المعرفة، والتقدّم إلى الأمام. إذ تمّ الخلط بين المساواة بين البشر على المستوى الإنسانيّ من جهة وبين المساواة بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون. إذا كان الله سبحانه وتعالى قد قال: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وإذا كان قد قال “ورفعنا بعضكم فوق بعض درجات” فكيف تمكنّ المجتمع العربي من تطوير ثقافة يعتبر الجميع سواء ويدّعي أن هذه الثقافة تمثل قيمة إنسانية سليمة. لا شك أن كلّ الأبحاث العلمية قد أثبتت دور العقول المتميّزة في دفع حركة العلم، والمجتمع إلى الأمام وأن النخبة الفاعلة تلعب دوراً جوهرياً في تطوير المجتمع الذي تنتمي إليه، ومن هنا كان استهداف الأعداء للمواهب الفذّة في جميع المجالات ويقابل ذلك للأسف إهمال مجتمعي عربيّ للمواهب، وأصحاب القدرات الاستثنائية. وقد تكون هذه المعادلة الخطيرة مسؤولة عن الكثير من أوجه معاناة مجتمعاتنا. حين يقرأ المرء كلّ المخططات، والحوارات التي تشغل الأعداء لاستهداف العقول لا يستطيع إلا وأن يتساءل أين هي الخطط المقابلة لإفساح المجال لهذه العقول أن تنمو وتزدهر وتعمل في أجواء آمنة، وأن يتمّ استثمار إنتاجها بالشكل الأمثل؟ لقد حدثني الدكتور فاخر عاقل رحمه الله حين التقى الرئيس المؤسس حافظ الأسد لمدة ثلاث ساعات، وسأله الرئيس في نهاية اللقاء ماذا يريد أجابه الدكتور فاخر لا أريد شيئاً شخصياً، ولكني أريد التركيز على البحث العلمي، ثمّ البحث العلمي، ثمّ البحث العلمي. ما لم يصبح الباحث هو القيمة العليا في المجتمع وما لم يصبح البحث العلمي أسلوباً معتمداً في كافة المجالات لن يشهد وطننا العربيّ التقدّم الذي نصبو إليه، والذي هو شرط أساسي لاستمراره وحيازته مكانة مرموقة بين الأمم. لقد فهمنا اليوم ودون أدنى شك استرايجية أعدائنا فهل لنا أن نعكف لوضع استراتيجية مقابلة تهدف إلى الحفاظ على العقول والثروات الفكرية، وإيلائها المكانة والمساحة، والتمويل، وكلّ العوامل التي تضمن فاعليتها وإنتاجيتها بالشكل الأمثل لأنها هي جذوة المعرفة، والمعرفة هي المحرّك الأساسي لتقدّم الشعوب والدول وازدهار حضارتها.