إعادة بناء سورية: الأولويات، مصادر التمويل، الآفاق (5) حميدي العبدالله
رابعاً، صعوبة توفر المواد التي تتطلبها عملية إعادة الإعمار دفعة واحدة, والتي يحتاجها ي بناء حوالي مليون وستمائة ألف وحدة سكنية، وهي مجموع الوحدات السكنية التي هدّمتها الحرب، هذا يحتاج إلى كميات كبيرة من الإسمنت والبلاط والرخام والحديد، وكل ما يتصل بعملية إعادة الإعمار من أخشاب وأشياء أخرى، ومن الطبيعي أن ذلك غير متوفر الآن، لأن بعض معامل الإسمنت قد تأذت بفعل الحرب، وبعضها الآخر لا يعمل بكامل طاقته، وحتى لو كانت القدرة الإنتاجية في معامل الإسمنت كما كانت عليه قبل الحرب، فإنها غير قادرة على تلبية طلبٍ استثنائي ناجمٍ عن الخراب الكبير الذي سببته حرب ثمانِ سنوات دارت في المدن والأحياء والقرى والبلدات وتسببت بخراب لم تشهده حتى الحروب العالمية الكبرى بسبب تطور الأسلحة التي استخدمت في الحرب على سورية.
لا شك أن هذا الواقع يشكل تحدياً كبيراً أمام الدولة السورية التي لن تكون قادرة على بناء معامل لإنتاج متطلبات إعادة الإعمار دفعةً واحدة، كما أنها لا تستطيع رهن البدء بعملية إعادة الإعمار إلى حين الانتهاء من بناء معامل تنتج المواد التي تحتاجها عملية إعادة البناء، كما لا يتوفر لدى الدولة السورية الاستثمارات اللازمة لاستيراد مواد إعادة البناء من الخارج وحتى الاستثمارات الخارجية المتوقع تدفقها عبر المشاركة الدولية في إعادة الإعمار فإنها سوف تتجه بالدرجة الأولى إلى البنية التحتية وإلى قطاعات النفط والغاز، وربما القطاع السياحي، وسوف تعتمد عملية إعادة الوحدات السكنية على جهد الدولة السورية وقدراتها التمويلية وعلى جهد الجمعيات التعاونية، وغالبية هذه الجمعيات تطلب العون من القطاع المصرفي، سواء الحكومي أو الخاص، في حين أنه ليس لدى القطاع المصرفي السيولة المطلوبة، فضلاً عن أنه هو سيعتمد مبدأ الأولويات في القروض وسيتجه لإعطاء الأولوية لمشاريع غير المشاريع السكنية.
كما أن عملية إعادة إعمار بهذا الاتّساع تحتاج إلى عددٍ كبير من الآليات والروافع وما يدخل أيضاً في عملية إعادة الإعمار. فثمّة مدن وأحياء وبلدات كثيرة وبعد مرور أكثر من عام على تحريرها من الإرهاب, لم تتوفر الآليات الكافية لإزالة الأنقاض، وهذه معضلة، فالدولة لا تستطيع إنفاق مئات ملايين الدولارات على شراء آليات وعناصر أخرى تتطلبها عملية إعادة الإعمار، لأنه لن يتوفر لها التمويل اللازم، كما أنه لا يمكن صرف مبالغ هائلة على هذه الآليات والعناصر لاستخدامها مرة واحدة، وبديهي أن حل هذه المعضلة والتحدي كما التحديات الأخرى التي تمّت الإشارة إليها سيفرض على الدولة اعتماد مبدأ الأولويات، أي الحصول على آليات تستخدم في المناطق المرشح أن تكون لها الأولوية، وبعد الانتهاء من العمل في هذه المناطق، تحويل هذه الآليات إلى مناطق أخرى، أو قطاع آخر وهذه العملية سوف تستغرق وقتاً، وسوف يتم تأجيل الشروع حتى في إزالة الأنقاض في مناطق لحيث انتهاء هذه العملية في مناطق أخرى، في حين ستعطى الأولوية لإزالة الأنقاض من المناطق المرشحة لأن تحتل الأولوية في عملية إعادة الإعمار لاعتبارات كثيرة تفرض سلم الأولويات هذا.
مجموع هذه العوامل متضافرة تحتّم رضوخ الدولة السورية لمنطق الأولويات في عملية إعادة الإعمار حتى لو توفرت الظروف كاملة للمشاركة في عملية إعادة الإعمار بما في ذلك المشاركة الأجنبية من قبل الدول والجهات التي لم تنخرط في الحرب على سورية، ويتوجب على الدولة وعلى المؤسسات المعنية بوضع المخطط التوجيهي لعملية إعادة الإعمار أن تأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل، ووضع سلم الأولويات لتكون العملية منظّمة وناجحة، ولكي لا تقع أخطاء تقود إلى تعثر مشاريع، أو عدم القدرة على إنجازها في الوقت المطلوب، وبالتالي تتبدد القدرات، ويحدث هدرٌ كبيرٌ في الموارد والمال المنفق على عملية إعادة الإعمار.
وجود مثل هذا المخطط التوجيهي الذي يعيّن بصرامة ووضوح الأولويات، والمرافق والقطاعات التي يتوجب أن تنطلق منها عملية إعادة الإعمار، وعدم السماح بتجاوز ذلك، وضبط أي محاولات فوضوية على هذا الصعيد هي الشرط الأول لنجاح عملية إعادة الإعمار وانطلاقها بقوة وسلاسة من دون حصول تعثر وانتكاسة قد تكون تداعياتها سلبية لجهة المشاركة في هذه العملية من قبل الجهات الدولية والجهات المحلية.
تنظيم عملية وضع الأولويات لا بد أن تكون ثمرة تفاعل دائم ومنظّم وعلى مستويات مختلفة بين الجهات الحكومية المعنية بالعملية، وبين الفاعلين في القطاع الخاص، وبين الخبراء المحليين والاستعانة بخبراء أجانب من الذين شاركوا في عمليات إعادة إعمار ناجحة على مستوى العالم، هذا مع الملاحظة أن التجربة السورية ستكون تجربة فريدة وغير مسبوقة نظراً لاتساع عمليات الخراب الذي تسببت به الحرب.