التكيف الأميركي صعب وطويل
غالب قنديل
ليس من السهل ان ترضخ الإمبراطوريات لنتائج الفشل والهزائم ولا هو امر بسيط ان تنثني القيادات الإمبراطورية عن عادات ممارسة سلطة التحكم المطلق في غياب القوى المنافسة بينما تصطدم بانبثاق قوى منافسة واعتراض على جبهات متعددة تعلن نهاية عهد وتنذر بتبلور عهد جديد تفقد معه الكثير من معالم هيمنتها وتسيدها وتحكمها بأقدار العالم.
بدأت مؤشرات نهاية الهيمنة الإمراطورية الأحادية على العالم في رحاب العقدين الماضيين المشحونين بمعالم الغطرسة الأميركية والسيطرة التامة على العالم اقتصاديا وعسكريا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي الذي تم تقديمه إيديولوجيا كلحظة انتصار تاريخية للرأسمالية ولمعسكرها الغربي بقيادة الولايات المتحدة وكانت اولى ثمارها تبلور عقيدة الأمن القومي الأميركي التي قادت حقبة العولمة السياسية والاقتصادية والعسكرية استنادا إلى حصاد القوة المتراكمة بيد الإمبراطورية الأميركية نتيجة تفوقها التكنولوجي والاقتصادي والسياسي والعسكري وهيمنتها الإعلامية والمالية في العالم.
خرجت الإمبراطورية إلى العالم مبشرة بقيمها الإيديولوجية فوسعت نطاق الهيمنة الرأسمالية وفرضت الخضوع لنموذج النظام الرأسمالي الأميركي وعممت فكرة الرضوخ لديكتاتورية السوق ودمرت فكرة دولة الرعاية لصالح موجة الخصخصة التي تكفل ببثها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالتكافل.
الأمر الجوهري في كل ذلك ومع خليط النظريات والطروحات التي أشيعت كان ما شرحه المفكر الاستراتيجي الفرنسي ألان جوكس في كتابه “أميركا المرتزقة ” والذي كرسه لشرح ومناقشة تقارير مجلس الأمن القومي الأميركي في عقد الثمانينات من القرن الماضي عن استعمال القوة العسكرية الأميركية العظمى لإخضاع العالم اقتصاديا وسياسيا ومنع قيام القوى العالمية المنافسة للقوة الأميركية المهيمنة.
تلك العقيدة العسكرية كانت مولد الحروب الأميركية التي دشنت القرن الجديد بغزو أفغانستان والعراق وبنشر القوات الخاصة الأميركية حتى اليوم في مئة وتسع وأربعين دولة على سطح الكرة الأرضية والغاية هي السعي إلى إحكام القبضة الإمبراطورية على موارد الثروات وطرق نقل الموارد والسلع عبر العالم .
عندما منيت المغامرات العسكرية بالإخفاقات المتلاحقة وتولدت جراءها تداعيات وخسائر اقتصادية ومالية هائلة شرعت الإمبراطورية تبحث عن طرق التكيف الممكن مع الوضع العالمي الجديد بعدما ظهر منافسون دوليون يملكون إمكانات وقدرات هائلة ويفرضون حضورهم الاقتصادي والمالي والعسكري وبالذات الصين وروسيا ومجموعة البريكس وإيران .
كانت اولى محاولات المؤسسة الحاكمة الأميركية للبحث عن خطة للتكيف مع الوضع الجديد ولحفظ الممكن من مكانة القوة المهيمنة في العالم من خلال مجموعة بيكر هاملتون التي صاغت توصيات عسكرية وسياسية تضم في بنودها اولوية الحوار مع روسيا لتلافي خطر الاصطدام الكبير وللبحث عن التسويات الممكنة على جبهات الصراع العالمي بهدف التخلص من الاستنزاف الاقتصادي والعسكري للحروب الفاشلة التي خاضتها الإمبراطورية في ولايتي دبيلو بوش وقد بدت وثيقة بيكر هاملتون برنامجا مشتركا للحزبين الجمهوري والديمقراطي وظهر بعض أركانها كوزير الدفاع روبرت غيتس من ثوابت الولاية الأولى للرئيس الديمقراطي باراك اوباما الذي خلف دبليو بوش في البيت الأبيض.
استمر المازق وتصاعد واحتدمت تبعات المنافسة وتحديات القوى الصاعدة الجديدة في العالم وتم الانقلاب على وثيقة بيكر هاملتون داخل المؤسسة الحاكمة فجرى تعطيلها بينما شنت الحرب على سورية ضمن خطة أشمل لتعويض خسائر الهيمنة الإمبراطورية ولتجديد ادواتها بواسطة التنظيم العالمي للأخوان المسلمين وباعتماد الوكيل التركي على البلدان العربية والإسلامية بوصفه نموذجا ممكنا لتجديد التعبية الاستعمارية في العالم الثالث وفي الشرق العربي الإسلامي على وجه التحديد.
فرض الصمود السوري مسارا معاكسا وحضورا للقوى المنافسة عسكريا واقتصاديا وسياسيا من خلال دور محور المقاومة في مجابهة ضارية ضد الحلف الأميركي الغربي الصهيوني الرجعي الذي سن الحرب على سورية وبفعل مؤازرة كل من إيران وروسيا والصين للجمهورية العربية السورية التي انتزع صمود رئيسها الشجاع احتراما عالميا واسعا بوصفه احد رموز التحرر من الهيمنة والتصدي للعدوان الذي قادته الإمبراطورية الأميركية مباشرة في جميع مراحله حتى اليوم.
ظهرت محاولات التكيف الأميركي مجددا في لقاءات الوزيرين جون كيري وسيرغي لافروف وعبر وثائق رسمية وقعاها معا لكن تربصت بها انقلابات المؤسسة العسكرية والأمنية التي تنصلت من التزامات الرئيس ووزير الخارجية وصممت على مواصلة الحرب قبل ان تضطر إلى التزام خطوط تحاشي الصدام المباشر مع روسيا وإيران كنتيجة محتومة للمغامرة العسكرية بتوسيع العدوان الأميركي الصهيوني ضد الدولة الوطنية السورية.
لم ترضخ الإمبراطورية لجبرية التنسيق مع القوى المنافسة والمناوئة إلا مكرهة وما زالت تحاول التنصل والتحايل وما نشهده مؤخرا من موجة غضب واتهامات ضد دونالد ترامب يمثل نموذجا لعقدة إنكار المأزق ولرفض الاعتراف بالوقائع الجديدة في صفوف البيرقراطية العسكرية والسياسية داخل الديوان الإمبراطوري الأميركي.
على الرغم من كون المأزق الإمبراطوري دفع بكتلة اميركية كبيرة من شرائح الرأسمالية الكبيرة والوسطى والطبقات الفقيرة إلى انتخاب رئيس من خارج المؤسسة التقليدية لليمين الأميركي هو دونالد ترامب الذي يعامل كخائن بعد قمة هلسينكي التي تكتمت المؤسسة على شقها المتعلق بسباق التسلح النووي لتبرز ملف “روسيا غيت” الذي وظفته ضد الرئيس منذ انتخابه بهدف قطع الطريق على مبدأ الانفتاح على روسيا والاعتراف بنديتها عالميا رغم الاضطرار الأميركي نتيجة الخوف الدفين من شبح التعددية القطبية.
الإمبراطوية المتصدعة في زمن فشلها تعاند وتنكر التحولات القاهرة وقانون التطور التاريخي يقول إن الحقائق ستفرض نفسها ولو بعد حين خصوصا إذا حافظ الحلف المناهض للهيمنة الأميركية الأحادية على وحدته وتماسكه وسد منافذ المناورة والتهرب امام واشنطن.