ما خفي من تفاهمات هلسينكي
غالب قنديل
كشفت معلومات اميركية حول نتائج قمة هلسينكي ان من اهم تلك النتائج على صعيد العلاقات الثنائية انطلاق آلية للتفاوض حول الحد من انتشار السلاح النووي وخفض حدة السباق بين الولايات المتحدة وروسيا في مجال صناعة الصواريخ الباليستية ونشرها وإنشاء آلية محصنة لتبادل المعلومات.
وبرز في واشنطن اتجاه واضح للاعتقاد بأن من مصلحة الولايات المتحدة تذليل العقد التقنية والعملية في التفاهم على معاهدة ستارت الجديدة وتوقع معهد بروكينغز عقد اجتماعات روسية اميركية بين الضباط والخبراء من البلدين لوضع إطار التفاهم الممكن وذكر ان البنتاغون يدعم هذه المساعي التي تفاهم عليها الرئيسان دونالد ترامب وفلاديمير بوتين واستغرب أحد باحثي المعهد ستيفن بيفر بقاء هذه المسألة في الظل بينما استأثر بالاهتمام حول القمة ما يتصل بالتحقيق الامني حول التدخلات الروسية المزعومة في الانتخابات الرئاسية.
في سباق الصناعة العسكرية والتكنولوجيا اظهرت التقارير الصحافية خلال السنوات القليلة الماضية تفوقا روسيا واضحا بينما تسارعت التهديدات الأميركية وتكثفت حول المجال الحيوي لروسيا في اوروبا الشرقية والوسطى من خلال نشر قواعد الصواريخ التي تهدد العمق الروسي وهذا ما يرسخ الاستنتاج بان الانزلاق إلى المواجهة خطر قائم يفترض وضع أسس وضوابط وفتح خطوط اتصالات لتبادل المعلومات وللتنسيق بين القيادات العسكرية العليا للحؤول دون تدهور الاحتكاك المحتمل إلى مواجهة لا تحمد عقباها.
ومن هنا أهمية فتح خطوط الاتصال الثنائية التي كانت أبرز نتائج قمة هلسينكي بعيدا عن ضجيج الحملات التي استهدفت دونالد ترامب وهي حملات تعكس الصدى العميق لعقدة الهيمنة الأميركية المتداعية في العالم ويجب ان نتذكر بالمناسبة كيف جرى تعطيل وثيقة بيكر هاملتون التي اعقبت فشل حربي إدارة دبليو بوش في أفغانستان والعراق وجرى الانقلاب عليها بالذات في البند المتصل بالشراكة مع روسيا في البحث عن تسويات الخروج من الحروب الفاشلة والقوى نفسها التي عطلت توصيات بيكر هاملتون نفذت انقلابا ضد باراك اوباما وتفاهمات كيري لافروف حول سورية.
المنافسة الصاروخية مع روسيا تمس الأمن القومي الأميركي وليس فحسب خارطة النفوذ والهيمنة وسباق التسلح النووي الذي تميل كفته لصالح موسكو بعد التطور الهائل لتكنولوجيا الصواريخ الروسية مما يمثل حافزا في واشنطن وخصوصا على صعيد المؤسسة العسكرية الأميركية التي تسعى لتحديث ترسانتها الصاروخية للتوصل إلى تفاهمات ثنائية تجدد اطر الرقابة المشتركة وتقنن عمليات الخفض التدريجي لانتشار السلاح النووي وبالذات في اوروبا الشرقية والوسطى.
هذا الفصل المكتوم من قمة هلسينكي الذي سلم بوتين بشأنه مذكرة تفصيلية لترامب تتضمن سلة اقتراحات ونصوصا مقترحة لتعديل الاتفاقيات السابقة مع آلية للمتابعة المنتظمة تعتم عليه وسائل الإعلام الأميركية ولم يحسن ترامب استخدامه كما ينبغي لشرح ضرورات التفاهم مع روسيا لمنع تصاعد اعباء سباق التسلح الاقتصادية والمالية إلى جانب تحديات المنافسة التجارية التي تثقل كاهل الاقتصاد الأميركي.
ترامب كان يساير مركبات العنجهية الاميركية التي هو أحد مروجيها عبر عدم الاعتراف بالاضطرار الاميركي إلى التفاهم مع روسيا حول الحد من سباق التسلح وانتشار السلاح النووي وتحاشي الإقرار بالتقدم الكبير الذي تحرزه صناعة السلاح الروسية في هذا السباق الذي يمثل التفاهم على آلية ضبطه حاجة أميركية اقتصادية وعسكرية ملحة ومطلبا للمؤسسة العسكرية التي باتت قيادتها تعترف في الغرف المغلقة بحاجتها إلى ضوابط وآليات وقائية لمنع الاحتكاك وتحاشي الاشتباك مع روسيا.
بين الحروب العاثرة وسباق التسلح ونجاح موسكو في تزعم كتلة المنافسة الشرقية التي تضمها مع الصين وإيران هكذا تكفل الواقع بإنهاء القطيعة الأميركية الروسية وليس بمستطاع المعترضين ان يعطلوا الخطوات القادمة بوهم الهيمنة الأحادية التي أثبتت الظروف صعوبة حمايتها وارتفاع كلفة المغامرات التي خيضت لأجل ذلك منذ تعطيل بيكر هاملتون وما جرى من انقلابات أميركية عقب ذلك لمنع تنفيذ سياسة عقلانية وواقعية اتجاه روسيا والصين والعالم المتغير الذي أسقط وهم القطب الأوحد المهيمن الذي تملك النخبة الأميركية الحاكمة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.